يرى كثير من الفلاسفة أن هدف الفلسفة الرئيس هو تخليص الإنسان من الخوف، ويرون أن الخوف من الموت هو المصدر الرئيس للخوف وأساسه، ويتفق كثيرٌ من علماء الاقتصاد معهم بأن الخوف هو أصل الكارثة وعمودها الفقري، حيث يساهم الخوف في تحريك مشاعر الجمهور، وقد استفاد الاقتصاديون بشكل كبير من المدرسة السلوكية في تفسير حركة العرض والطلب، ومؤخراً بات مؤشر ثقة المستهلكين أحد أبرز المؤشرات التي تستند لها الاقتصادات الكبرى في معرفة توجُّهات السوق.
تساهم الأزمات عادة بزيادة وتيرة الخوف، ولكن أي خوف؟ الخوف من المستقبل كأساس ومرتكز لهذا الخوف، حيث تتمحور تخوفات المستهلكين حول احتمالية فقدان سلعة ما وبالتالي هم لن يجدوها مما يجعلهم يشترون المزيد منها في الوقت الحالي، كذلك خوفٌ من نوع آخر يتعلق باحتمال انخفاض ثرواتهم المكدسة على شكل عملات نقدية أو عقارات أو حتى استثمارات، هذا يدفعهم للبحث عن ملاذ آمِن يضمن لهم استقرار مشاعرهم وأموالهم.
قبل بضعة أيام خرجتُ للتبضع من أحد المحال التجارية الضخمة لأُفاجَأ بعدم وجود أي عبوة من زيت الطبخ الخالي من الكولسترول أو المليء به، فاستفسرت ليأتيني الجواب: أن المحل يقوم بملء الرفوف يومياً بضِعْف الكميات السابقة التي كان يملأ بها رفوفه قبل بَدْء الحرب “الروسية-الأوكرانية”، كما وضع المحلّ شرطاً لكل مستهلك أنه لا يستطيع أن يشتري أكثر من عبوة واحدة في كل مرة، ورغم هذا فإن الكميات تنفد من الساعة الأولى لافتتاح المحل أبوابه في الصباح.
تمتلك أوكرانيا أكبر صادرات لزيت دوار الشمس في العالم كما لديها إنتاج ضخم للذرة وقد بدأت إمداداتها تتراجع فعلياً ولكن المصادر الأخرى لا تزال متوفرة حيث يمكن للزيت أن ينتج من بدائل كثيرة كما أن عدداً واسعاً من الدول تقوم بتصدير هذه المواد، ويخشى المستهلكون أن تفقد هذه المادة من الأسواق لذا فإنهم حريصون على شراء كميات أكبر لغرض تخزينها، وفي مثالنا السابق فإن المستهلك الواحد قد يلجأ لشراء عدة عبوات من الزيت خلال الأسبوع بغرض التخزين بينما كان استهلاكه قد لا يتجاوز عبوة واحدة في الشهر، هذا السلوك الذي يتحول إلى سلوك جماعي يشتري فيه الجميع في الأسبوع ما قد يشترونه في عام كامل سيجعل السلعة تختفي من الرفوف مهما ارتفعت زيادة المعروض منها.
في أوقات الأزمات ترتفع أسعار السلع الرئيسية، ففي إطار سعي المستهلكين للحفاظ على حياتهم واستقرارها يقومون بتخزين المزيد من السلع الغذائية وبالتالي طلبها، حتى لو كان سعرها مرتفعاً مما يصبّ في صالح مُنتجِي أو تجار هذه السلعة، كما يدفعون بثرواتهم نحو الذهب كون بريقه وقبوله العامّ يشعرهم بالأمان، كما ترتفع عادة أسعار الوقود كونه إحدى السلع الرئيسية التي يتخوف الناس من أن تتأثر حياتهم بدونها، فالكهرباء والنقل وغاز الطهي هي أشياء رئيسية في الحياة المعاصرة.
وسط هذه الأزمات يناضل الفلاسفة، وعلماء الاقتصاد، ورجال الدين، وخبراء الإعلام لتخليص الناس من خوفهم أو تقليل منسوب الخوف لديهم في أيام الأزمة، وفي حال أفلحوا فإن حقيقة الأزمات لن تتجاوز نطاق تأثيرٍ بسيط، ولكن من الصعوبة بمكان أن يصل المستهلكون إلى مثل هذه القناعات، فالخوف هو المحرك الحقيقي للبشر منذ وُجدوا، وقد تأتي الرغبات في نطاق أقل تأثيراً من الخوف ليصبح شعار المرحلة: “لا صوت يعلو فوق صوت الخوف”.
لا يمكن لنا إلا أن نخاف، ولكن الخوف المُبالَغ فيه يصنع الأزمات ويولّد غيرها، ويجعل مَن يراقبنا أكثر قدرة على التحكم بنا تُجّاراً كانوا أو سياسيين. يخوّف بعض الطغاة الناس بأنهم سيواجهون مزيداً من الأزمات في حال خالفوا رغباتهم، يستخدمونهم ويحركونهم، ولعل وظيفة العلم هي إخراج الناس من ظلمات الخوف إلى نور الطمأنينة، فالاستبداد قد يكون حاكماً ديكتاتوراً أو فكرةً تسيطر على عقولنا أو حتى تاجراً يرفع الأسعار كيفما شاء، والخوف يجعلنا أكثر قبولاً بالوضع الحالي وأكثر انفتاحاً على خيارات المستقبل، لا بل قد نستزيد من الواقع ونتمسك به طاغيةً كان أو سلعةً مقابلَ رفض الخوض في المجهول، المجهول الذي لن يكشفه لنا إلا نورُ المعرفة والتبصُّر.