لم تدم فترة انتقال النظام السوري من استخدام الخيار الأمني إلى العسكري سوى أيام لمواجهة الثورة السورية التي انطلقت في آذار/ مارس 2011، عندما لجأ إلى نشر القناصة وقوات المشاة والمدرعات داخل وعلى أطراف المدن والقرى والبلدات.
كان وما زال استخدام القوّة المفرطة الخيار الرئيسي بالنسبة للنظام السوري في مواجهة الثورة السورية، وما اللجوء إلى السبل السياسية والدبلوماسية إلا نتيجة الخضوع لضغوط دولية أو كاستجابة مؤقتة للظروف العسكرية والأمنية.
بالمقابل، لم يكن التسليح الخيار المفضّل بالنسبة لقوى الثورة والمعارضة السورية التي اضطرّت إلى المواجهة العسكرية من أجل الدفاع عن المتظاهرين ولاحقاً عن هوية الثورة بعد أن بات النزاع على البقاء.
وبعد مرور عقد على استخدام النظام السوري للخيار العسكري في مواجهة الثورة، لا بدّ من الوقوف على أبرز الآثار التي تسبّب بها.
تقويض السيادة
عندما تأسّس مسار مباحثات أستانا عام 2017، بين النظام والمعارضة السورية، كان البيان الختامي صادراً عن روسيا وإيران وتركيا، باعتبارهم دولاً ضامنة لتنفيذ بنوده بما فيها وقف إطلاق النار. ويشابه نظام الضمانة الثلاثي نظام الوصاية الدولي الذي أصدرته الأمم المتّحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
ويبدو أنّ نظام الضمانة، الذي حاولت مراراً الدول الراعية له توسيع قائمة الدول المشاركة فيه، قد يُفقد سورية مفهوم السيادة لفترة طويلة من الزمن، باعتبار أنّ أطراف النزاع لن تكون قادرة على الحفاظ على وقف إطلاق النار وتحقيق استقرار في البلاد.
كان استخدام النظام السوري للخيار العسكري سبباً رئيسياً في تقويض سيادة البلاد، منذ أن طلب من إيران المساعدة بصفة استشارية، لمواجهة قوى الثورة والمعارضة السورية، ومن ثم روسيا بصفة عسكرية بدعوى مكافحة الإرهاب.
في الواقع، لن يُعبّر مطلب خروج القوات الأجنبية من سورية حتى لو تم النص على ذلك في الدستور وأي اتفاق سياسي، عن استعادة البلاد للسيادة، لا سيما وأنّ حاجة القوى المحلية للحماية الدولية ستبقى قائمة من أجل ضمان عدم عودة النزاع وإعادة الاستقرار والإعمار وغيرها من متطلبات.
وعلى أيّة حال، لن تتخلّى القوات الأجنبية في سورية لا سيما روسيا وإيران عن تواجدهم العسكري بسهولة؛ باعتباره الضامن الرئيسي لمصالحهم وأهدافهم.
خطوط تماس تُعيد تشكيل الحدود الإدارية
منذ أواخر عام 2011، دخلت سورية في سباق للسيطرة والنفوذ على المدن والقرى والبلدات والطرق والمعابر والموارد، بين النظام والمعارضة ومن ثم الإدارة الذاتية الكردية، وكذلك تنظيم داعش الذي خسر تواجده العسكري منذ عام 2018، كان ذلك نتيجة مباشرة لإصرار النظام السوري على استخدام الخيار العسكري في مواجهة المظاهرات التي عمّت البلاد.
تغيّرت خريطة السيطرة مراراً، لكن ومنذ آذار/ مارس 2020، حافظت أطراف النزاع على خطوط التماس، نتيجة حرص القوى الدولية على الحفاظ على التعاون بينها والذي قد يتأثر في حال استخدام الخيار العسكري، وبسبب تقلّص هامش المناورة لاستخدام الخيار العسكري بعد أن عزّزت تلك القوى الدولية من تواجدها العسكري مثل تركيا أو تراجعت عن قرار الانسحاب العسكري مثل الولايات المتّحدة.
في الواقع تبدو خطوط التماس، بعد انتهاء سباق السيطرة والنفوذ على خارطة البلاد، بمثابة حدود إدارية جديدة تشكّلت على أساس سياسي لا نتيجة حوكمة للاحتياجات والموارد والسلطة. لذلك تتجه سورية نتيجة استخدام الخيار العسكري إلى نموذج اللامركزية السياسية، ولو لفترة مؤقتة، على اعتبار أنّ مناطق النفوذ ستكون على قدر كبير من الاستقلال الذاتي سياسياً واقتصادياً وإدارياً وقانونياً وعسكرياً، وفي حال بدت هناك رغبة محلية ودولية لإنهاء مناطق النفوذ سيكون نموذج اللامركزية الإدارية وفق خطوط التماس ماثلاً كأمر واقع على أقل تقدير ما لم يتم القبول باللامركزية السياسية.
احتكار العنف لم يعد ممكناً لسنوات
بعد أيام قليلة من اندلاع الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، قام النظام السوري بتشكيل لجان شعبية مسلّحة لقمع المظاهرات وملاحقة المتظاهرين، والتي سرعان ما تحوّلت إلى قوات الدفاع الوطني، وانضمت لاحقاً إلى القوات الرديفة، وهي وحدات غير تابعة للمؤسسة العسكرية. وبذلك تخلّى النظام السوري عن تعريفه للجيش والأمن كأداتين وحيدتين لاحتكار العنف المشروع في البلاد.
وبطبيعة الحال، عندما استخدام النظام السوري القوّة المفرطة ضد المتظاهرين كان بذلك قد أعاد خرق التزامه باحتكار العنف المشروع على نحو لا يُمكن للشعب القبول به مرّة أخرى، على اعتبار أنّه سبق ونقض هذا التفويض في ثمانينات القرن الماضي. بالتالي، تم كسر هذا الاحتكار باعتباره لم يعد مشروعاً، وتشكّلت بموجب ذلك فصائل مسلّحة لحماية المتظاهرين وهوية الثورة.
عملت الدول الضامنة على تقليص انتشار السلاح؛ كضم تركيا للفصائل ضمن الجيش الوطني السوري، وضم روسيا جزءاً من القوات الرديفة ضمن الفيلقين الرابع والخامس، على أمل أن تساهم هذه الجهود في تسهيل إعادة الاستقرار. ومع ذلك، لا يبدو أنّ إعادة احتكار العنف المشروع ستكون ممكنة في سورية على المدى القريب والمتوسّط، بل سيحتاج ذلك لسنوات لا سيما من ناحية إعادة دمج المقاتلين ونزع السلاح وضمان عدم الاقتتال.
إنفاق حربي يستنزف الموارد لعقود
قبيل عام 2011، لم يكن النظام السوري يستعرض أي بيانات عن مدى الإنفاق المخصص للقطاع العسكري والأمني، ومع ذلك، غالباً ما كانت إيرادات قطاع الطاقة والثروة الباطنية في البلاد مخصصة بشكل كبير للإنفاق الحكومي ولا سيما المؤسسة العسكرية والأمنية.
بعد اندلاع الثورة أصبح النظام السوري يُدير البلاد بموجب اقتصاد حرب واقتصادٍ موازٍ، طوّع فيه موارد البلاد لمواجهة عسكرية مفتوحة مع قوى الثورة والمعارضة. ومنذ مطلع عام 2013، بدأ بمنح إيران وروسيا امتيازات للاستثمار بقطاعات الطاقة والثروة الباطنية عبر عقود تأجير واستثمار طويلة الأجل مقابل تقديم خدمات عسكرية واقتصادية له.
وحتى في حال التوصّل إلى تسوية سياسية والبدء في مرحلة إعادة الإعمار لن تتخلّى روسيا وإيران عن تلك الامتيازات، وبالتالي استمرار استنزاف موارد سورية لعقود نتيجة الإنفاق الحربي الذي خصصه النظام السوري للسيطرة على الدولة والمجتمع ومن ثم قمع هذا الأخير عندما قام بالثورة ضده.