”نداء بوست“ – حوارات – حاوره محمد جميل خضر:
يرى حسن أبو هنية، الباحث في الجماعات الجهادية وحركات الإسلام السياسي، أن الإسلام السياسي قد يتراجع ولكنه أبداً لن ينتهي.
ويذهب إلى أن الفشل الحقيقي، هو فشل الدولة الوطنية العربية وليس فشل حركات الإسلام السياسي. ويقول في حوار أجراه "نداء بوست" معه إن الدين الإسلامي "جزء أصيل من هُوِيَّة المنطقة، ولا يوجد لحركاته السياسية بديل، فاليَسار من فشلٍ إلى آخر، وهو ما ينطبق أيضاً على الحركات الليبرالية". أبو هنية يُعرِّف الإسلام السياسي بأنه حركة اجتماعية تستند إلى إرث راسخ ومكوّن ممتد في الوجدان الجَمْعي العربي.
أبو هنية باحث غير متفرغ في مؤسستَيْ "فريدريش إيبرت" و"كونراد أديناور" وغيرهما من المؤسسات البحثية. نُشرت له مقالات كثيرة في صحف عربية مختلفة. صدر له كتب عدة، منها "المرأة والسياسة من منظور الحركات الإسلامية في الأردن"؛ "الإخوان المسلمون في الأردن: أزمة الديني والسياسي في السياق الوطني"؛ "الطرق الصوفية دروب الله الروحية: التكيُّف والتجديد في سياق التحديث". شارك في تأليف كتب عدة، منها: "السلفية الجهادية في الأردن بعد مقتل الزرقاوي: مُقارَبة الهُوِيَّة" و"أزمة القيادة، ضبابية الرُّؤْية".
تالياً تفاصيل الحوار مع أبو هنية
”نداء بوست“: مرّت حركات الإسلام السياسي، عربياً، وربما عالمياً، ولا تزال تمر، بمنعطفات وُجودية، وصلت ذروتها في مصر وما آلت إليه أوضاع "الإخوان المسلمون" هناك، ثم جاء الدور على تونس حيث تواجه "حركة النهضة" استحقاقات مراجعة شاملة وربما جذرية. كيف تقرأ -بوصفك الخبير المطلع على صَيرورة هذه الحركات- المشهدَ؟
– حركات الإسلام السياسي تمثل طيفاً واسعاً من الحركات التي ترى في الإسلام دِيناً، وترى فيه سياسة، وتمارس هذا البُعد السياسي فيه عَبْر وسائل عديدة. فإنْ كان في بلدٍ مَا ثَمّة فسحة من الديمقراطية والانتخابات، فإنها تختار هذا المدخل لخوض حياة سياسية في هذا البلد. وفي البلدان التي لا تحظى بشكل من أشكال الديمقراطية، فإن حركات الإسلام السياسي تحاول إيجاد مكان لها من خلال النقابات العمّالية والمهنية واتحادات الطلبة وباقي مؤسسات المجتمع المدني. خرج من حاضنة هذه الحركات جماعات أكثر راديكالية، وصلت إلى قناعة أن العمل السلمي عَبْر مؤسسات المجتمع المدني لن تُعيد دولة الخلافة، وهي الجماعات التي أُطلق عليها فيما بعد اسم الحركات أو الجماعات الجهادية. ما جعل الإسلام السياسي كمصطلح له العديد من الوجوه. جماعة (الإخوان المسلمون) هي الأم الكبرى لهذه الحركات وهذه الجماعات، وهي أصل كل ما أُطلق عليه لاحقاً الإسلام السياسي. جماعة (الإخوان المسلمون) مرّت منذ تأسيسها على يد حسن البنا في مصر، أو على يد أبي الأعلى المودودي في الهند، بمنعطفات كبيرة وتعرجاتٍ كثيرةٍ وتحوُّلاتٍ عديدةٍ حول تصوُّراتها لذاتها وحول تصوُّراتها للمجتمع المحيط والأنظمة القائمة. ما جعلها تأخذ مسارات مختلفة، وبالتالي فإن تناوُل كل حركة من تلك الحركات التي وُلدت من رَحِم الحركة الأم، أفضل من تناوُلها ككتلة واحدة.
منعطف حزيران والتحوُّل التركي
عربياً، بدأت تلوح في الأفق مختلف تجليات الإسلام السياسي، وَفْق ما يقول أبو هنية، مع تراجُع الحقبة القومية واليسارية وأُفولها بعد هزيمة حزيران عام 1967، وبالتالي تمدد الإسلام السياسي وسيطرته منذ سبعينيات القرن الماضي على النقابات المهنية واتحادات الطلبة وتدخُّله شيئاً فشيئاً في السياسة وتقدُّمه في دول عديدة.
التحوّل اللافت لحركات الإسلام السياسي كان مع اعتلاء حزب العدالة والتنمية التركي سُدَّة الحكم هناك في العام 2002، وبقائه حتى يومنا هذا، ما شَكَّل حافزاً ودليلاً إرشادياً لكثير من حركات الإسلام السياسي لإعادة بناء فكرها، وبناء آمال أن تُحقِّق أهدافها عَبْر صناديق الاقتراع.
تأليفُ السياسي الفرنسي أوليفييه روا في العام 1994، كتابه "فشل الإسلام السياسي"، شكَّل نقطة تحوُّل لمحاولة فهم هذه الحركات ودراسة وجهاتها والتدقيق في فكرها. ومع ظهور حركات اجتماعية جديدة بدأت بعض الأصوات تردد أن الإسلام السياسي تراجع، ولكن ومع انطلاق ربيع الثورات العربية، استطاعت حركات الإسلام السياسي أن تعيد تَمَوْضُعها وتفوز في كل الدول التي انتصرت فيها الثورات وأُجريت فيها بعد ذلك انتخابات. بالتالي وقبل الحديث عن فشل الإسلام السياسي لا بد أن نُجري مُقارَبة مع طبيعة النظام السياسي الحاكم في هذا البلد أو ذاك، فمعظم الأنظمة التي تعمل فيها هذه الحركات هي أنظمة ديكتاتورية، أو فيها ديمقراطية شَكْلانية؛ لا حرية صحافة ولا انتخابات نزيهة أو لا انتخابات أصلاً، ولا أحزاب ولا أي مظهر من مظاهر الحريات العامة، فقط هَيْمَنة عسكرية وإعلام رسمي سُلْطوي ورقابة أمنية على مدار الساعة، ووسائل ناعمة من الهيمنة.
وفي الدول التي فازت فيها بعد 2011، حركات تابعة للإسلام السياسي، جرى إقصاؤها بعد ذلك عَبْر أدوات الدولة العميقة وأجهزتها القمعية والعسكرية، وأزيحت هذه الحركات بطرق غير سلمية ولا ديمقراطية في معظم الحالات. لم تفشل التجربة عن طريق القوى الشعبية، وإنما عن طريق الانقلابات. بعض الأنظمة مثل الأنظمة الملكية -مثل المغرب والأردن- وكذلك مثل الكويت وتونس التي تُعَدّ استثناءً في المشهد العربي، كانت أكثر تساهُلاً مع حركات الإسلام السياسي.
حتى في بعض هذه الدول، ورغم عدم حدوث ثورات مضادة فيها ولا انقلابات على الثورات، فإن بعضها بدأ خنق حركات الإسلام السياسي تحت ذريعة محاربة الإرهاب، بعد أن صنّف معظمها كتنظيمات إرهابية، ربما المغرب فقط الآنَ من بين الدول العربية التي ما يزال الإسلام السياسي يجد له فيها متنفساً، وهي تحظى، عَبْر حزب العدالة والتنمية المغربي، بمشاركة حكم لافتة. لاحقاً وحول ما هو متعيّن الآن فقد مُنِيَ حزب العدالة والتنمية نسخة المغرب بهزيمة ساحقة في الانتخابات الأخيرة، كما جرت إزاحة حركة النهضة التونسية عن المشاركة بالحكم عَبْر قرارات عُرْفية وبما يشبه الانقلاب على التوافُقية التي كانت قائمة في تونس.
الانتكاسة، إذاً، هي بسبب انعدام الديمقراطية وعدم وجود انتخابات حرّة ونزيهة في الدول التي حاولت حركات الإسلام السياسي أن تجد لنفسها فيها موطئ قدم. فكيف يمكن أن تعمل في ظل حكومات تقمعها وتُشَيطِنها وتَدمغها بختم الإرهاب. نعلم أنها أنظمة مأزومة وتعاني من أزمات وجودية سياسية واقتصادية واجتماعية، وسنشهد موجة ثانية من الثورات والانتفاضات، كما حدث في العراق والسودان والجزائر، والأمور لن تستقر لهذه الأنظمة الديكتاتورية، علماً أنها أنظمة مدعومة من الخارج، وقد لاحظنا التضييق على هذه الحركات في أوروبا، وفي أمريكا وصل الأمر لمناقشة الكونغرس باقتراح من ترامب وضع (الإخوان) على قائمة الإرهاب.
مما تقدم لا يمكننا القول إن حركات الإسلام السياسي في طَوْر الأُفول، وإنها تجربة وصلت نهايتها. صحيح أنها تعاني تراجُعاً واضحاً هذه الأيام، ولكنه، باعتقادي العميق، تراجُع مؤقت. ولا يمكننا استنتاج فشلها من عدمه إلا في حالة فشلها في بلاد تنعم بديمقراطية حقيقية صلبة. لكن، ومن ناحية أخرى، فإن مختلف ما واجهته هذه الحركات في الأعوام القليلة الماضية، كشف عن مشاكل في حركات الإسلام السياسي، فهذه الحركات، كما في المغرب وتونس، تخلّت عن مبادئها، وأصبحت جزءاً من أنظمة ديكتاتورية وتبرر لها.
صحيح أنها تعرضت لكثير من الإكراهات، لكنها، في المقابل، تخلّت عن كثير من مبادئها التي كانت تناضل من أجل تحقيقها، وتخلّت عن قواعدها الجماهيرية، وانخرطت في المشاريع السلطوية العربية.
قد يتراجع الإسلام السياسي نتيجة قمع عسكري أمني سلطوي، أو حتى في مقاييس الصندوق، لكنه لن ينتهي، خصوصاً مع تعديله منهجية عمله، وإجراء مراجعة ذاتية، التراجع والنهوض لا يُقاسان بالسنوات، وهي شأنها شأن أي حركات اجتماعية مُعرَّضة للتراجع وحتى الأُفول، ولكن من الممكن أن تعيد بناء نفسها، وقد تنشأ حركات من رَحِمها أكثر نضجاً منها.
”نداء بوست“ – هل الرهان على سِلْميَّة بعض هذه الحركات ما يزال قادراً على الصمود؟
– يجري الحديث حالياً عن حركات ما بعدَ الإسلام السياسي المحمَّلة بمساعي تجديد للشعارات والطروحات وآليات العمل. وقد يشذّ عنها مجموعات لا تؤمن بالسلمية وتصبح أكثر راديكاليَّةً، تتنكب نهج القاعدة والدولة الإسلامية وغيرها. أكيد أنه لن تتحوّل جميع حركات الإسلام السياسي لمنهجية العنف والتطرف، وسيبقى الجزء الأكبر منها ملتزماً بالسلمية، ولكن بعض هذه الانجرافات واردة كما لاحظنا مثالاً لذلك في مصر، حيث لجأت جماعات قليلة للعنف، إلا أن الموقف الرسمي لجماعة (الإخوان المسلمون) في مصر العاكس لقاعدتها الأوسع لا يزال مُصرّاً على السلمية كمنهج عمل سياسي.
”نداء بوست“ – إلى أي مدى يمكن لحزب مثل العدالة والتنمية التركي -وهو بلا شك يحمل بذور إسلام سياسي- أن يُسهم بحمل أعباء ضخّ الدماء في شرايين بعض حركات الإسلام السياسي في الإقليم؟
– رغم بعض الإخفاقات، إلا أن حزب العدالة والتنمية التركي يُشكِّل بالتأكيد نموذجاً يُحتذى، يكفي أنه استطاع أن يُفشِل انقلاباً عسكرياً، وحافظ على ديمقراطية تركيا وعلى وجوده كحزب أساسي في الحياة السياسية التركية. لم يكتفِ بالتركيز على الهوية وقدم مشروعاً سياسياً اقتصادياً وجد له صدى لافتاً في مداه المحلي والإقليمي.
قد يتراجع أحياناً ومن ثَم يعود ويتقدم فهذا جزء من اللعبة السياسية. ما جرى في التجربة التركية أن النظام العميق والنخب العسكرية والسياسية والاقتصادية الممسكة بزمام الأمر هناك، وصلت لقناعة بإمكانية إدماج الإسلام السياسي ضمن المشهد التركي العام، وتراجعت عن فكرة الإقصاء، وهذا ما ساعد حزب العدالة والتنمية على التقدم والتمدد والتوسع.
هذا لم يحدث في أي بلد عربي، ولا تزال الأنظمة العربية مصرّة على إقصاء الإسلام السياسي عَبْر شَيْطَنته واتهامه بالإرهاب، وليس لديها أي نية لقبول الإسلام السياسي وعدم إدماجه بأي شكل من الأشكال، ولدينا بما حدث في تونس والمغرب خير دليل.
هي تريد أن تخضع هذه الحركات لسياساتها بالمطلق عن طريق تذويبها وإلغائها لهُوِيَّاتها والإضرار بها.
في تركيا الوضع مختلف و"العسكرتاريا" تراجعت وأصبح لدى الجميع قناعة تامة بحتمية الديمقراطية واستحالة العودة نحو أي حكم عسكري أو قمعي. في عالمنا العربي الأمور تسير إلى الوراء ولا يوجد أي تفكير بالديمقراطية وموجبات تناوُب السلطة. الدولة التي كانت قمعية أصبحت ديكتاتورية، والدولة التي كان فيها بعض أنفاس حرية (شِبه حرّة أو حرّة جزئياً) صارت ديكتاتورية خالصة. كانت تونس استثناءً وانتهى الآن هذا الاستثناء، وبالتالي لا يمكن الحديث عن فشل للإسلام السياسي، بل هو فشل للدولة الوطنية العربية، وانتصار للثورات المضادة المستندة إلى الدولة العميقة وأجهزتها العسكرية بمساعدة التواطؤ الخارجي ودعمه للدولة العميقة.
المعضلة الجوهرية مع طبيعة النظام العربي الذي لا يريد أن يعقد صفقة مع الإسلام السياسي على شاكلة ما حدث في تركيا. حركات الإسلام السياسي قدمت طروحات، اجتهدت، حاولت، ليس شرطاً أنها تملك الحق المطلق، لكن لا أحد عربياً يريد أن يتأمّل طروحاتها هذه، أو يعاين جهدها، فهي محكوم عليها بالإقصاء أصابت أو أخفقت، أحسنت أو أساءت، الإقصاء عربياً مصيرها، والإقصاء هو طبيعة النظرة نحوها، والإقصاء قَدَرها المحتوم في بلاد تُتقن الانقلابات وأدمنت القمع شعوباً وحاكمين.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية