نداء بوست – الدوحة – خاص
استعرض "مركز جسور للدراسات"، خلال مشاركته في ندوة "سورية إلى أين؟"، التي انطلقت صباح اليوم السبت، في العاصمة القطرية الدوحة تحوُّلات المواقف العربية والإقليمية إزاء سورية.
وجاء في كلمة المركز، التي ألقاها الباحث عباس شريفة، أنه لم تَعُدِ المواقف الدولية والإقليمية إزاء القضية السورية ثابتة بالمقارنة مع عام 2011، فلا الجامعة العربية باتت حاضرة في التسوية السياسية، ولا تركيا اكتفت بالتدخّل عَبْر الدبلوماسية، ولا إسرائيل بقيت تترقب الانهيار الأمني في الإقليم.
وساهمت العديد من القضايا في تغيير المواقف الدولية تجاه النزاع في سورية، وفقاً للمركز، أبرزها ظهور تنظيم داعش والتدخل الروسي في سورية وأزمة اللاجئين، بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلّق بالسياسات الداخلية لتلك الدول.
كما استعرض المركز أبرز التغيرات في المواقف العربية والدولية تجاه القضية السورية خلال السنوات العشر الماضية، وتحليل دوافع هذه التغيرات، وجاءت على الشكل التالي:
أولاً: المواقف العربية تِجاه سورية
الموقف من العزلة الدولية
حينما أصدرت الجامعة العربية في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، قرار تعليق عضوية سورية لديها؛ نتيجة عدم التزام النظام بالمبادرة العربية، كانت كل من الجزائر واليمن ولبنان قد تحفظوا على ما جاء فيه.
وعلى اعتبار أنّ القرار لم يُلزِم الأعضاء بسحب السفراء من دمشق فقد حافظ العديد من الدول على العلاقات القنصلية مثل الجزائر ولبنان والعراق وموريتانيا والبحرين وسلطنة عمان.
عملياً، أدّى القرار إلى فرض عزلة على النظام السوري بمنع وفوده حضور اجتماعات الجامعة العربية وجميع الأجهزة والمنظمات التابعة لها، إضافة إلى فرض عقوبات اقتصادية وسياسية؛ عَبْر منع السفر، وتجميد الأرصدة، ووقف التعامل مع المصرف المركزي، ووقف التعاملات المالية مع البنك التجاري السوري والحكومة، ووقف تمويل المبادلات التجارية، ومراقبة الحوالات المصرفية والاعتمادات التجارية، وتجميد تمويل المشاريع، وتخفيض الرحلات الجوية بمعدل 40%، وحظر توريد جميع أنواع الأسلحة إلى سورية، وغير ذلك.
ومع ذلك، لم تلتزم بعض الدول بالعقوبات التي تم فرضها، حيث سمحت الإمارات أو لم تعترض على تأسيس شركات لرجال أعمال إماراتيين في سورية منذ عام 2013 مثل عبد الله البلوكي، وكذلك لم تمنع الأنشطة التجارية على أراضيها لبعض الأشخاص المدرجين على قوائم العقوبات مثل رامي مخلوف ونزار الأسعد وغيرهما. عدا الاشتباه بمساهمة الإمارات في تزويد القوات الجوية التابعة للنظام بالوقود عام 2014، عَبْر شركة النفط Pangates International Corporation Limited، والتي أدرجتها وزارة الخزانة الأمريكية على القائمة السوداء للكيانات الخاضعة للعقوبات.
كذلك، بالنسبة للبنان الذي حافظ على التبادلات التجارية مع سورية بل حتى أنّ مصارفه قدّمت تسهيلات كثيرة بما فيها الائتمانية للتجار السوريين من أجل استيراد البضائع إلى سوقهم المحلي، حتى بات القطاع المصرفي في لبنان بوابة اقتصاد النظام السوري إلى العالم.
وبالرغم من أنّ العديد من الدول العربية مثل مصر والأردن وتونس والجزائر والعراق ولبنان بدأت منذ عام 2015 تنادي بإعادة العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية مع النظام السوري، إلّا أنّ أوّل خطوة في هذا الصدد لم تتحقق حتى نهاية أيلول/ سبتمبر 2018؛ عندما أعاد الأردن فتح معبر "نصيب – جابر" الحدودي بالتنسيق مع النظام تمهيداً لبَدْء حركة النقل والتجارة، ومن ثَمّ قيام الإمارات بإعادة افتتاح سفارتها في دمشق أواخر عام 2018.
تباعاً، تحوّلت دعوات إعادة تطبيع العلاقات مع النظام إلى خطوات ملموسة؛ حيث تم استئناف العلاقات القنصلية من قِبل الإمارات وسلطنة عمان والأردن لتنضم إلى دول أخرى لم تقطع علاقاتها أصلاً، مثل البحرين والجزائر والعراق ولبنان.
ومع أنّ إعادة تطبيع العلاقات القنصلية مع النظام لا تتعارض أصلاً مع قرار الجامعة العربية لعام 2011، إلا أنّها تهدف إلى فك العزلة تدريجياً عنه عَبْر تطبيع العلاقات الاقتصادية والأمنية والسياسية، وبالفعل بدأ ذلك.
اقتصادياً؛ بدأ الأردن والإمارات التمهيد لتفعيل مجلس التعاون الاقتصادي المشترك، إضافة للاتفاق بين مصر والأردن ولبنان والنظام في 8 أيلول/ سبتمبر 2021 على إيصال الغاز العربي إلى لبنان عَبْر الأردن وسورية.
وأمنياً؛ استقبل الأردن وزير دفاع النظام علي أيوب في 20 أيلول/ سبتمبر 2021، حيث التقى خلالها رئيس هيئة الأركان الأردني يوسف الحنيطي. كما شارك مدير إدارة المخابرات العامة السوري حسام لوقا في أعمال الدورة الأولى من المنتدى العربي الاستخباراتي الذي عُقد في القاهرة في 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، رغم أنّه مُدرَج على قوائم العقوبات الأمريكية.
وسياسياً؛ أجرى ولي عهد أبو ظبي اتصالاً هاتفياً ببشار الأسد في 2020، ليعاود الطرفان مجدداً نهاية 2021 الاتصال ببعضهما.
إضافة إلى قيام وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد بزيارة دمشق لأول مرة منذ انقطاع العلاقات السياسية والدبلوماسية في نهاية عام 2021، كما قام ملك الأردن عبد الله الثاني بن الحسين بإجراء اتصال مع بشار الأسد في ذات التوقيت أيضاً.
على أيّ حال، وبغض النظر عن الدوافع الفعلية للدول العربية من أجل فكّ العزلة عن النظام والتي تتراوح بين العلاقات السياسية والاقتصادية والأمنية، من الواضح، أنّ هناك محاولة لربط تلك القرارات بدواعي أو ضرورة التنسيق المشترك بالقضايا الإنسانية والتنموية والأمنية وهي ذرائع سبق أن لجأت إليها بعض الدول لتفسير سبب إعادة تفعيل بعثاتها الدبلوماسية في سورية بعد انقطاع دام 10 سنوات تقريباً.
الموقف من العملية السياسية
منذ اندلاع الثورة أطلقت جامعة الدول العربية عدداً من المبادرات للحل مثلما هو موضَّح أدناه:
المبادرة العربية لحل الأزمة في 27 آب/ أغسطس 2011، والتي كانت تهدف إلى وقف إطلاق النار وتحييد الجيش عن الحياة السياسية في البلاد وتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية.
خطة العمل العربية في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، التي تتضمن وقف كافة أعمال العنف، والإفراج عن المعتقلين، وإخلاء المدن والأحياء السكنية من المظاهر المسلّحة، وفتح المجال أمام منظمات الجامعة العربية للاطلاع على حقيقة الأوضاع في البلاد.
الخطة العربية لحل الأزمة في 22 كانون الثاني/ يناير 2012، وتنص على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتفويض نائب الرئيس بصلاحيات كاملة في المرحلة الانتقالية، وإجراء انتخابات لجمعية تأسيسية برقابة عربية ودولية.
لم تنجح جهود الجامعة العربية المستقلّة لتسوية النزاع في سورية والتي كانت تهدف إلى الحيلولة دون التدخل الأجنبي ومنع مزيد من زعزعة الاستقرار في المنطقة. وعليه، جاء طلب دعم الخطة العربية من مجلس الأمن بما في ذلك تشكيل قوة سلام عربية أممية في سورية وذلك في 12 شباط/ فبراير 2012.
وبالفعل، وافق مجلس الأمن على دعم المبادرة العربية وعيّن مبعوثاً خاصاً مشتركاً مع الجامعة العربية إلى سورية في 24 شباط/ فبراير 2012، والذي قدّم خطة سلام مكونة من 6 نقاط بعد الاسترشاد بقرارات الجامعة ذات الأرقام (7436) و(7444) و(7446)، لكنه سرعان ما تخلّى عن مهمته في 2 آب/ أغسطس من نفس العام بسبب عدم التزام النظام السوري بالخطة وغياب الدعم الدولي الكافي.
يبدو أنّ الجامعة العربية كانت تعوّل على تحصيل دعم لموقفها من الدول الغربية لا سيما بعد تشكيل مجموعة اتصال دولية موسّعة في 25 شباط/ فبراير 2012، تحت مسمّى مجموعة أصدقاء سورية.
شاركت الجامعة العربية في إطلاق مسار مباحثات جنيف بحضور ممثل عنها في الجولة الأولى التي عُقدت في 30 حزيران/ يونيو 2012، وتم الاتفاق على مبادئ مرحلة انتقالية مستمدة من قرارات ومبادرات الجامعة بشأن سورية.
كذلك، دعمت الجامعة العربية تعيين مبعوث دولي مشترك جديد إلى سورية، وعليه باشر الأخضر الإبراهيمي مهمته في 17 آب/ أغسطس 2012 كموفد مشترك للجامعة العربية والأمم المتحدة، والذي رعى الجولة الثانية من مباحثات جنيف في 10 شباط/ فبراير 2014، ليعلن بعدها استقالته في 13 أيار/ مايو بعدما وصل المسار إلى طريق مسدود.
ومنذ ذلك، تخلّت الجامعة العربية عن دورها في العملية السياسية والذي كان قد بدأ في الرعاية المستقلة، ومن ثَمّ المشاركة فيها مع الأمم المتحدة، لتتحول بعد ذلك إلى مجرّد مراقب بالمعنى غير الرسمي.
وقد بدَا هذا التراجع أكثر وضوحاً بعد محادثات فيينا للسلام في سورية أواخر عام 2015، والتي شارك فيها كل من قطر والسعودية والإمارات والأردن ولبنان وسلطنة عمان ومصر بصفة مستقلة بينما غاب تمثيل الجامعة العربية، ليتم بعدها منح السعودية مسؤولية رعاية وتشكيل هيئة التفاوض السورية؛ كاستجابة لتوصيات المجموعة الدولية لدعم سورية ISSG، وهي خطوة جاءت على حساب دور الجامعة العربية.
ورغم التوافق الذي حصل بين بعض الدول العربية على تمثيل المعارضة السورية في المباحثات السياسية إلّا أنّ ذلك لم يمنع وقوع خلاف لاحقاً انعكس على الموقف من العملية السياسية؛ حيث تمت إعادة تشكيل وفد المعارضة للمفاوضات في مؤتمر الرياض (2) والذي أبدى مرونة أكبر في التجاوب مع إشراك الدول الضامنة لمسار "أستانا" في رعاية العملية السياسية إلى جانب الأمم المتحدة وذلك بعد اختصارها في إطار الإصلاح الدستوري.
الموقف من المعارضة السورية
في 22 كانون الثاني/ يناير 2012، وكنتيجة لعدم التزام النظام السوري بالمبادرة العربية أصدرت الجامعة العربية قراراً غير مسبوق يحمل الرقم (7445) وينصّ لأوّل مرّة على فتح قنوات اتصال مع المعارضة السورية وتوفير كافة أشكال الدعم السياسي والمادي لها ودعوتها لتوحيد صفوفها والدخول في حوار جادّ يحافظ على تماسكها وفعاليتها.
لاحقاً، وكنتيجة لعدم التزام النظام السوري بخطة السلام "العربية – الأممية" التي رعاها كوفي عنان أصدرت الجامعة العربية رقم (7595) في 6 آذار/ مارس 2013، والذي يقر بشكل غير مسبوق بأنّ الائتلاف الوطني السوري هو الممثل الوحيد للشعب السوري والمحاور الأساسي مع جامعة الدول العربية.
لكن مع تراجُع الدور العربي في رعاية العملية السياسية انخفض الاهتمام من دعم المعارضة السورية في المباحثات إلى توحيد صفوفها والذي تمثّل في مؤتمر الرياض (1)، ومن ثَم محاولة تقليص عدد الدول المؤثرة عليها كما حصل في مؤتمر الرياض (2).
الموقف من الوجود الأجنبي
عندما أطلقت جامعة الدول العربية المبادرة العربية لحل الأزمة في سورية (2011)، كان من بين الأهداف التي تم تحديدها الحرص على تفادي أي نوع من التدخّل الأجنبي المباشر وغير المباشر في سورية، ليتم تأكيد هذا الموقف لاحقاً في خطة العمل العربية (2011) وفي الخطة العربية لحل الأزمة (2012).
ويبدو أنّ الموقف العربي إزاء التدخّل الأجنبي في سورية كان نتيجة إعادة تقييم لموقف الجامعة في ليبيا بعدما طلبت من مجلس الأمن في 12 آذار/ مارس 2011، التدخّل لفرض منطقة حظر جوي، وهو ما مهّد لتدخُّل حلف "الناتو" في 19 من الشهر نفسه. بمعنى أنّ الدول العربية وجدت التدخّل الأجنبي في ليبيا سبباً لمزيد من الفوضى الأمنية بدل أن يكون مساهماً في فرض الاستقرار.
وفي أيلول/ سبتمبر 2015، شكّلت الجامعة العربية لجنة رباعية معنية بمتابعة تدخُّل إيران في شؤون الدول العربية. ومع ذلك، تجنّبت الجامعة العربية في البيانات الرسمية إدانة التدخل في سورية على وجه الخصوص.
كذلك، عندما تدخّلت روسيا في سورية أواخر عام 2015 لم تصدر الجامعة العربية أي موقف رسمي، باستثناء المواقف المستقلة للأعضاء التي تراوحت بين تأييد مثل مصر والبحرين والعراق، وانتقاد مثل قطر والسعودية وصمت دولٍ مثل الإمارات والأردن. لكن لاحقاً باتت مواقف معظم الدول العربية أكثر قبولاً لتدخُّل روسيا في سورية عدا التنسيق معها.
من جانب آخر، كانت بيانات الجامعة العربية تؤكد على ضرورة مكافحة الإرهاب والتنظيمات المتطرفة في سورية، لا سيما أنّ عدداً من الأعضاء انخرط في التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" منذ تأسيسه وشارك في الغارات الجوية على معاقله أو تمويل العمليات ضده في سورية مثل الإمارات والأردن والسعودية.
وبالنسبة لتدخّل تركيا في سورية، فقد أصدرت جامعة الدول العربية بياناً في 13 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، يُندد بعملية "نبع السلام"، جاء ذلك رغم استدراك عدد من الأعضاء لمواقفها الرسمية الرافضة للقرار مثل المغرب وليبيا وقطر والصومال، وهذا التباين مرتبط بالضرورة بطبيعة العلاقة مع تركيا.
لاحقاً، عندما بدأت خطوات التطبيع العربي مع النظام السوري بشكل جدي أواخر عام 2018، أرجأت العديد من الدول موقفها إلى إنهاء التدخل الأجنبي باستثناء الروسي. يُمكن ملاحظة ذلك بشكل واضح في نص المبادرة التي قدّمها العاهل الأردني للولايات المتحدة حول تسوية النزاع في سورية.
ثانياً: موقف تركيا تِجاه النزاع في سورية
في 24 تموز/ يوليو 2015، شنّت تركيا لأوّل مرة غارات جوية في سورية؛ بناءً على التفويض الذي منحه البرلمان للقوات المسلّحة في 2 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2014، والذي يسمح لها بالتدخّل في سورية والعراق ضد تنظيم "داعش" و"حزب العمال الكردستاني".
وعليه، أطلقت تركيا تباعاً 4 عمليات عسكرية خاطفة في سورية وهي "درع الفرات" في 24 آب/ أغسطس 2016، و"غصن الزيتون" في 20 نيسان/ إبريل 2018، و"نبع السلام" في 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2019، و"درع الربيع" في 27 شباط/ فبراير 2020.
بموجب التدخّل العسكري في سورية استطاعت تركيا اختبار وتطوير القدرات الحربية والصناعات الدفاعية ودعم مشتريات القطاع العسكري بشكل غير مسبوق لا سيما الطائرات المسيّرة وأنظمة التشويش. كما أنّها أسّست منطقة آمنة جنوب حدودها بمساحة تقارب 16 ألف كم مربّع، والتي ساهمت في تحقيق عدد من الأهداف مثلما هو موضَّح أدناه:
– الحدّ من المخاطر التي تهدّد المناطق الحدودية سواءً بما يخصّ تقليص حجم تدفّق اللاجئين، أو تقويض عمليات التهريب أو مراقبة ومكافحة تسلل التنظيمات والميليشيات الإرهابية والراديكالية.
– توفير بيئة آمنة نسبيّاً لانخراط العديد من الشركات التركية بمشاريع التعافي المبكّر، في قطاعات الكهرباء والاتصالات والصناعة والإنشاءات وغيرها.
– تقويض أنشطة حزب العمال الكردستاني، وتقليص مساحة سيطرته. لكن هذا التدخّل على أهميته لم يؤدِّ بعد إلى تفكيك ذراعه السوري المتمثّل بحزب الاتحاد الديمقراطي وأجهزته، وقد لا يكفي لمنع تشكيل "ممر إرهابي"، على طول الشريط الحدودي ما لم يتم شنّ عملية عسكرية تفتح طريقاً بين "تل أبيض" و"جرابلس" على أقل تقدير.
لكن قبل التدخّل العسكري في سورية كانت تركيا قد ركّزت على الجهود الدبلوماسية لتسوية النزاع حيث زار وزير الخارجية ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو دمشق عدّة مرات عام 2011 دون التوصّل لنتائج مجدية، وعندما فقدت تركيا الأمل بإمكانية استجابة النظام السوري للإصلاح أغلقت سفارتها في دمشق في 26 أيار/ مايو 2012.
ولم تفوّت فرصة المشاركة في تشكيل أصدقاء سورية في 25 شباط/ فبراير 2012، بما في ذلك استضافة الاجتماع الثاني لها في 20 نيسان/ إبريل 2013، والذي كان يهدف لدعم المعارضة السورية، وهو ما تحقّق فعلاً عَبْر برنامج الدعم الأمريكي Timber Sycamore Syria الذي أشرفت عليه وكالة الاستخبارات CİA وتم فيه تسليح فصائل المعارضة عَبْر غرفتين في عمّان وأنقرة. لتشرف تركيا بذلك على غرفة Müşterek Operasyon Merkezi (MOM) قبل أن يتم إغلاق البرنامج وهذه الأخيرة عام 2017.
في الواقع، منذ تدخُّل تركيا عسكرياً في سورية عام 2017 أصبح الدعم الدولي الذي يصل للمعارضة السورية المسلّحة يقتصر شيئاً فشيئاً عليها إلى جانب التمويل الذي تُقدّمه قطر لكن عَبْر قنواتها أيضاً.
في عام 2016، بذلت تركيا جهوداً للحيلولة دون سقوط مدينة حلب الإستراتيجية عَبْر دعم فصائل المعارضة المسلّحة، لكنّها أيضاً كانت حريصة على عدم الدخول في صدام مع روسيا؛ حيث سارعت إلى التنسيق معها والانخراط في مجموعة اتصال ثلاثية بشأن سورية تضم إيران إلى جانب كل منهما، والتي باتت تُعرف باسم منصة أستانا.
أصبحت تركيا بموجب منصة أستانا تؤدي دور الوسيط أو الضامن للمعارضة السورية في العملية السياسية ونظام وقف إطلاق النار. منذ ذلك الحين، باتت أنقرة تركّز بشكل كبير على قضايا الأمن القومي وأمن الحدود، وهو ما ترجمته بإطلاق 5 عمليات عسكرية شمال سورية ضد تنظيم "داعش" وحزب العمال الكردستاني والنظام.
لكنّ ذلك؛ أي التركيز على قضايا الأمن القومي لا يعني أنّ تركيا أبدت مرونة أو قبولاً لتسوية للنزاع في سورية بإهمال أو إغفال أو تخفيض مشاركة المعارضة في الحكم، الذي تحرص على أن يكون هناك تغيير فيه وعدم العودة لما قبل عام 2011 بما في ذلك اتفاق "أضنة" (1998).
ثالثاً: موقف إسرائيل تجاه النزاع في سورية
كان 30 كانون الثاني/ يناير 2013، تاريخ أوّل تدخُّل عسكري لإسرائيل في سورية بعد عام 2011، وحتى نهاية عام 2021. وقد تنوَّع شكل التدخّل العسكري بين الغارات الجوية وعمليات التسلّل والقصف الصاروخي والمدفعي وغيرها.
على أقلّ تقدير كانت إسرائيل تشنّ 20 غارة جوية في العام الواحد، ونفّذت خلال عامَيْ 2020 و2021 ما لا يقلّ عن 50 ضربة على مخازن أسلحة ومستودعات وعربات عسكرية وجنود وطرق إمداد وقواعد وموانئ وغيرها.
شكّلت إسرائيل موقفها تجاه النزاع في سورية تباعاً بناءً على عدد من الخطوط الحمراء التي تهدف إلى ما يلي:
– تقويض نفوذ إيران عَبْر منعها من إنشاء بنية تحتية عسكرية متطورة، ومن إنشاء خط اتصال أو إمداد عسكري مباشر، ومن إقامة مراكز عمليات على الشريط الحدودي مع إسرائيل أو على مقربة من منطقة الفصل، وعَبْر تعطيل مساعيها في تشكيل وحدة عسكرية تابعة لها في سورية على غرار "حزب الله" في لبنان والحشد الشعبي في العراق.
– منع النظام السوري من امتلاك قدرات دفاع جوي متطورة واستخدامها، وضمان الحفاظ على منطقة الفصل بين سورية وإسرائيل.
– منع انتقال الأسلحة والمواد والتقنيات الخاصة بتصنيع الأسلحة الكيميائية إلى وكلاء إيران وعلى رأسهم "حزب الله"، بالإضافة لمنع وصولها إلى المعارضة السورية أو التنظيمات الجهادية، مثل "داعش" و"القاعدة".
ولأجل ضمان تنفيذ العمليات العسكرية في سورية قامت إسرائيل بإنشاء مركز تنسيق مشترك مع روسيا أواخر عام 2015، لمنع الاشتباك بين الطرفين، ولتعزيز مستوى التعاون الأمني والاستخباراتي حول سورية، لكنه لم يَحُلْ دون تجاوُز التنسيق في بعض الأحيان، والذي أدّى في شباط/ فبراير 2018، إلى إسقاط مقاتلة حربية من طراز F16، وكاد أن يتسبب في توتُّر غير مسبوق قبل أن يتم احتواؤه.
– إضافة إلى رفع مستوى التنسيق والتعاون الأمني مع الولايات المتحدة في إطار مذكرة التفاهم الموقَّعة بين الطرفين في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1981، ومحاولة إيجاد آلية ثلاثية للتنسيق الأمني حول سورية، تضم إلى جانب إسرائيل كلاً من الولايات المتّحدة وروسيا، ومثال ذلك اجتماع القدس منتصف عام 2019.
ومع ذلك، لا يبدو أنّ لدى إسرائيل خطة واضحة للتعامل مع التهديد الذي يُشكّله توسُّع انتشار إيران في سورية، والذي بات بمثابة قاعدة عمليات متقدّمة ضد مصالحها. فيما يبدو أنّ إسرائيل ما تزال تواجه صعوبة في وضع حدّ فاصل بين الوقاية المطلوبة والتصعيد غير المرغوب مع إيران في سورية.
خُلاصة
كان دخول روسيا إلى سورية عام 2015 نقطة التحوُّل الرئيسية في المواقف العربية والإقليمية تجاه القضية السورية، إذ لم تَعُدْ سورية منذ ذلك الحين مساحة مفتوحة لتحرُّك الفاعلين الإقليميين والدوليين، وبعد ذلك جاء التدخل التركي المباشر وخسارة الجنوب السوري، والذي أوقف أيَّ مجال للتدخل الخارجي في ملف المعارضة السورية، وحصره بالبوابة التركية.
ولدى المقارنة بين عامَيْ 2011 و2021، يظهر بشكل واضح تراجُع الدور العربي وانخفاض فاعليته في تسوية النزاع بسورية أو حتى ضمان مصالح الدول العربية سواءً المستقلة أو المشتركة، وبينما كان هذا الدور يعتمد على الدبلوماسية، فإنّ رغبة بعض الدول بإعادة تفعيل دورها أو الجامعة العربية لا تحمل معها أي مؤشرات أو دلائل تضمن من خلالها تحقيق أهدافها، لا سيما أنّ الدبلوماسية لم تَعُدْ كافية بعد 10 سنوات من النزاع.
وبالنسبة لإسرائيل من الملاحظ أنّها لم تُغيِّر من أدوات تدخُّلها في سورية منذ عام 2013، باستثناء وتيرة القصف أو وسائط القوة النارية، ولا يعني استمرار التنسيق الأمني والعسكري مع روسيا والولايات تذليل المخاطر المتزايدة التي باتت تواجه أمن إسرائيل مقارنة مع حجم تدخُّلها في سورية، ومع ذلك، لا يوجد ما يدعو للاعتقاد بأنّ إسرائيل مستعدة لرفع مستوى التدخّل في هذه الأخيرة.
أمّا تركيا فقد رفعت مستوى تدخُّلها بشكل كبير في سورية، بعدما كان يقتصر على الأدوات الدبلوماسية، ليشمل الأدوات العسكرية والأمنية والاقتصادية، وتحوّلت من فاعل سلبي إلى فاعل إيجابي رئيسي في الملف السوري.
ويُلاحَظ أن تحوُّلات المواقف الإقليمية تجاه الملف السوري ترتبط بشكل أكبر بالتحولات في المواقف الدولية، وخاصة في موقف الولايات المتحدة، والتي ما زالت الفاعل الأكثر تأثيراً في المنطقة، فالموقف الأمريكي يحدّ من قدرة روسيا وإيران على تنفيذ رغبتها في إعادة تعويم النظام عربياً ودولياً.
وعلى العموم، فإنّه يمكن القول بأن التحول العربي والإقليمي الرئيسي في الملف السوري كان تحوُّلاً سلبياً، أي أن عدداً أكبر من الفاعلين تحوَّل نحو الموقف السلبي نظراً لتقاسُم الأدوار بين الفاعلين الرئيسيين في الملف، روسيا ومعها إيران، والولايات المتحدة، وتركيا، وبالتالي فإنّ التحولات لم تصبَّ في صالح النظام، وربما صبَّت بشكل أو بآخر في مصلحة المعارضة.