نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
يواصل جسر "عبدون" أو جسر الموت كما بدأ ينتشر اسمه الجديد ويتعزّز، حصد أرواح الهاربين إلى الانتحار حلّاً لأزماتهم الوجودية والعاطفية والمعيشية والنفسية.
أمس، ومن على ارتفاع 45 متراً، ألقى (م.أ) بنفسه من فوق الجسر الذي انتحر قبل أقل من شهر من فوقه، أيضاً، شابٌّ سوريٌّ عشرينيٌّ كما هو حال المنتحر الجديد المولود في عام 1995، والمنتسب لسلكٍ أمنيٍّ، وكان أبلغ والده قُبيل انتحاره بسويعات، أنه لا يرغب بالبقاء في مكان العمل الذي يعمل فيه، فردعه الوالد المتمسّك بضرورة وظيفة كهذه، فما كان من الشاب الملتزم بصلاة الفجر في المسجد، المستقيم، قوي البنية، فارع الطول، واعد الآمال ولم يبلغ بعدُ الثلاثين من عمره، إلا أن توجّه، دون علم الأسرة، ولا العائلة، ولا العشيرة الكبيرة الوازنة التي ينتمي إليها، إلى الجسر اللعين، ليرسل إلى والده قُبيل إقدامه على الفعل الحزين، رسالة يطلب منه فيها أن يسامحه، ومن ثَمّ يلقي بنفسه من فوق هذا الارتفاع المميت.
حيث لم يلحق به شقيقه الذي أخبره والده أن رسالة أخيه تحمل نذر خطرٍ، وَتَشِي باقترابِ فاجعة، فوصل الشقيق الجسر الذي توقّع أن يكون مسرحاً لحدثٍ جلل، فإذا بشقيقه كان قد سقط (أسقط نفسه) وغرق بدمائه وتكسّرت ضلوعه وتهتّك جسده بلا حراك ميْتاً بعد أن ترك نفسه يهوي من على جسر "عبدون".
فاجعة جديدة من شتى الأصول والمنابت، تفتح باب أسئلة لا ينتهي حول ما قامت به أمانة عمّان والجهات المعنية لإيقاف مجزرة الجسر الذي يغري هولُ ارتفاعِه فوق الأرض تحته، وخلوُّهُ من المارّة سوى السيارات التي، ولا مرّةً فكّر أحد سائقيها بسؤال نفسه ماذا يفعل هذا السائر المغيّب فوق جسر خاص بالسيارات فقط؟ ولا مرّة قفز رجل من سيارته لإيقاف محاولة موت حزين.
مسؤولية حكومية، وأُخرى مجتمعية، وأسئلة كبرى حول حجم البطالة في الأردن، وحول التحوّلات الطاغية الصادمة التي غاصت في دهاليزها العاصمة، وحوْل حجم الضرر الذي أحدثته، وتحدثه مواقع التواصل الاجتماعيّ، وعلى وجه الخصوص موقع "تيك.. توك" المنفلت عقاله بعيداً عن أي قيم، أو ضوابط، أو آليات مراقبة حصيفة.
مات محمد قبل أن يفرح بزفافٍ وأولاد.. وقبل أن يبلغه جدّه موافقته على تخصيص الطابق الثاني من بيت العائلة الكبير له.
رحل المواظب على صلاة الفجر في المسجد، تاركاً شقيقه الذي تأخّر عن ممكناتِ إنقاذِهِ دقائق، يغرق ببكاءٍ لا يعلم حجم الّلطمِ والفجيعةِ فيه، سوى الله جَلَّ في عُلاه.
تخبرنا الإحصائيات المحليّة أن عدد الذي نجحوا بالانتحار من على جسر الموت، وصل إلى رقمٍ مفزعٍ كفيلٍ بجعل أصحاب القرار يلتئمون، ويتخذون قراراتٍ مدروسةً كفيلةً بمنع أي محاولةِ انتحارٍ من هناك. ثم يجعلهم يعجّلون بدراسات وتحقيقات واستقصاءات، تبيّن أسباب الانتحار في الأردن على وجه العموم (من فوق جسر عبدون وبوسائل أخرى منها حرق النفس على سبيل المثال)، وقد بدأت تزيد على المائتيْن سنوياً، ومن ثَم معالجة هذه الأسباب، وتجنيد الطاقات الأكاديمية والطبية والصحية والثقافية والمعرفية والمجتمعية لبحث المسألة، وتقديم رُؤاهم ومنهجياتهم حولها، وحلولهم المقترحة لها.
هم لا يفعلون ذلك عادةً، لأنَّ المواطنَ ليسَ الرقمَ الصَّعب في معادلاتِ الأنظمة، وحساباتِ السُّلطات، في بلادٍ عربيةٍ تاهَتْ منها الجِهات.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية