نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
تتبدّل الأيام، وتتقلّب الأزمان، وتبقى بعض العادات راسخة في الوجدان الجمعي الشعبي.
في هذا السياق، فإن العادات والأعراف والقيم الأثبت من غيرها، الحاملة فرص حفاظها على مكانتها بين الناس، هي تلك المحتوية داخل طياتها وتفاصيلها على معانٍ أخلاقية عُليا، المانحة شعوبنا العربية والإسلامية خصوصية تُميِّزها عن باقي مجتمعات العالم.
في الأردن وفلسطين، يحافظ الشعبان الأردني والفلسطيني، على عادة توجُّهِ جاهةٍ كبيرةٍ ووازنةٍ لبيت العروس من أجل طلب يدها حسب أصول مُتوارَثة، يجري خلالها التركيز على مختلف التفاصيل، والإبقاء على أدق أدبيات هذه العادة.
ولهذه "الجاهة" أصولها، وموروثاتها، ولوازمها، ولازماتها.
ومع الأيام والتطوّر المدينيّ الذي شهده الأردن، تغيّرت بعض تفاصيل "الجاهة" ولكن أحداً لم يفكّر، مجرد تفكير، بإلغائها أو الاستغناء عنها.
ولمحاولة فهم التطور الذي حدث على "الجاهة"، لا بأس من التعرّف عليها في تفاصيلها القديمة. وفي هذه التفاصيل أن العريس يتوجّه إلى بيت المرأة التي اختارها زوجة، ومعه عدد من رجال عشيرته ووُجهائها.
وبعد أن يقوم أهل العروس بالترحيب بالجاهة الوافدة إليهم، يضع أبو العروس فنجان قهوة سادة أمام كبير جاهة العريس، قائلاً: (اشربوا قهوتكو)، فيرد كبير عشيرة العريس: (قبل ما نشرب القهوة إحنا جايين نطلب إيد فرس توكل بإيدها، بدنا بنتكو فلانة عروس لابننا فلان)، فيجيبه أبو العروس: (أجتكوا عطية ما من وراها جزية)، عندها يرد كبير الجاهة: (إحنا مجزيينك خمسة آلاف دينار) على سبيل المثال. علماً أن المهر لم يكن بالآلاف في الماضي، ربما ما بين 700-1000 دينار.
بعد الموافقة تُطلق النساء اللواتي كنّ يراقبْنَ من شقٍّ مجاورٍ الزغاريدَ، وتُقرأ الفاتحة على نية القبول والتوفيق والرفاه، وتُوزَّع الحلويات والقهوة على باقي "الجاهة" وعلى الموجودين.
ومن التطوُّرات التي حدثت على هذه التفاصيل، أن مكان "الجاهة" لم يعد شرطاً أن يكون بيت أهل العروس، فقد يكون قاعة احتفالات كبيرة، بسبب أن بعض الجاهات ومن باب الاستعراض والتفاخر والإشعار بأهمية العروس المطلوبة وقيمة أهلها، بدأ عدد المشاركين بها بالارتفاع، وصولاً في بعض الجاهات التي تحدث عنها الناس، إلى "جاهة" مكونة من ألف شخص، يتقدمهم رؤساء وزراء سابقون ونواب وأكاديميون وما إلى ذلك. ومن التغيرات أيضاً أن مقدِّم فنجان القهوة لم يعد والد العروس، بل قد يكون نادلاً يعمل في القاعة التي اختِيرت مكاناً للجاهة، وقد يكون أحد أقارب العروس من شباب العشيرة الصغار.
ومن التطوّرات أن طالب العروس ومعطيها لم يعودا يخوضان في تفاصيل الزفاف من مهر معجَّل ومؤجَّل، بل يكتفيان بالقول (بحسب ما اتفق عليه أهل العريس وأهل العروس).
وسبب هذا التطوّر أن تقليد الأردنيين لبعضهم جعل معظم الجاهات تقريباً يطلب فيها شخص من خارج العشيرتين، ويعطي شخص من خارج العشيرتين أيضاً.
وعادةً ما يجري اختياره من الشخصيات العامة، ويتباهى أهل العروس، على سبيل المثال، بالقول إن ابنتنا طلبها رئيس وزراء سابق. أو إن ابنتنا (كُدَّت) لها جاهة عرمرمية مكوّنة من ألف وجيه أو من 500 وجيه.
ومن التغيرات أن الفنجان الذي يُصَبّ لكبير جاهة العريس، يجري تبديله بعد الموافقة.
ومن التغيرات أن بعض الباحثين عن النيابة والشعبية بدؤوا يطيلون الحديث قبل طلب يد العروس، مُورِدين آياتٍ وأحاديثَ نبويةً، ومحوِّلين طلب يد العروس إلى خُطبة عصماء، خصوصاً إن كانوا من المفوَّهين المعروفين بقدراتهم الخطابية. وفي هذا السياق، كثيراً ما ترتطم هذه الإطالة بتململ الناس الموجودين، خصوصاً في حالة الخروج عن الموضوع الرئيسي المتعلّق بطلب يد عروس بعينها إلى عريس بعينه.
ومن الإضافات التي تعود لأربعين أو خمسين سنة ماضية، وربما أكثر، توزيع "الكنافة" بعد الموافقة مع المشروبات الغازية.
أما التطوّر الأكثر صخباً وطرافة أن "الجاهة" هذه الأيام، في معظم الأحيان، تجري بعد أن يكتب العريس والعروس كتابهما. حتى أنها جرت في حالات بعينها بعد الزواج.
وهو الأمر الذي استدعى تدبيج الأردنيين نِكاتاً ساخرةً من كل هذا التغيّر في هذه العادة الراسخة رغم كل تطوُّراتها، ومن هذه النكات أن "الجاهة" أُقيمت بحضور أولاد العريس والعروس.
ولكن وبغض النظر عن كل التغيرات التي طرأت على "الجاهة" وتفاصيلها، فإنها تبقى كرامة كبرى للمرأة العربية المسلمة. وتأكيداً على احترامها وصيانة مكانتها، وأنها ليست صيداً ملقًى في طرقات الإهمال والضياع وما نراه من لحم رخيص يتحرك في شوارع الغرب.
من خُطب الجاهات التي لفتت انتباهي، الخُطبة الآتية:
"الحمدُ للهِ ثم الحمدُ للهِ.. الحمدُ للهِ الذي أحلَّ النكاحَ وحرَّم السِّفاحَ.. الحمدُ للهِ الذي كرّم المرأة المسلمة، فجعل الزواج حجابها، ورضاب روحها، وعناقيد خصبها وعطائها، وحِشْمة جمالها. الحمدُ للهِ الذي جعل
«الجاهة» في طلب هذا الزواج كرامتها والمقدار العالي المصون من قيمتها، تُحشد لها هذه الوجوه الطيبة الوقورة من الرجال الصالحين الأفاضل.. الحمدُ لله الذي قال في مُحكَم كتابه وتحديداً في الآية 21 من سورة الروم: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون". الحمدُ للهِ الذي قال في الآية الأولى من سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}.
والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ القائلِ: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ".
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية