يوم سأله سعد الله الجابري: أين حمارك؟
رأت جريدة (أخبار اليوم) بمناسبة الجلاء عن سورية أن تُوفد الأستاذ توفيق الحكيم لشهود عيد الجلاء الفرنسي عن سورية، وكذلك أوفدت مصورها الخاص ليسجل حفلات الجلاء… وبالفعل طار توفيق الحكيم إلى دمشق بطائرة حربية مصرية كانت متجهة إلى دمشق مع 20 طائرة أخرى لتشارك شقيقتها سورية بأفراح الجلاء.
كتب توفيق الحكيم:
“هكذا صعدت إلى الطائرة الحربية وبهذا الإحساس تجرأتُ واتخذتُ مكاني بين الطيارين المصريين كأني ريشة في أجنحة النسور. كانوا نحو عشرين بملابسهم الرسمية الزرقاء بلون السماء كل منهم يقود طائرة مقاتلة من طراز (سبتفاير)، وبقينا محلقين في الهواء حتى هبطنا في مطار المزة فوجدنا بالانتظار دولة سعد الله الجابري رئيس الوزراء فما كاد يراني حتى قال لي: وأين حمارك؟؟؟
فقلت له على الفور: أوفدته ليشيع المحتل الراحل بما يناسب المقام.
وسِرْنا في العاصمة المظفَّرة المحتشدة بوفود الدول العربية وقد هُرعت من كل فجّ عميق لتفرح وتشارك بالفرح. إن الوحدة العربية لوحدة قلوب، بل إنها قلب واحد في مجموعة أعضاء، كان عيد دمشق هو عيد العرب ولقد رأيتُ في عيون الوفود ذلك البريق والإشراق والبِشْر والفخر.
استيقظتُ في الصباح وكانت الساعة السادسة صباحاً، فقررت الخروج لتنشق الهواء، ولكني تعجبتُ عندما رأيت أن المدينة كلها مستيقظة، وقد ارتدت أجمل حُلّة من أزهارها، وُضعت الأصص الرائعة أمام البيوت والحوانيت وخيمت على الكراسي المرصوفة فوق الأفاريز، وأعلام الدول العربية وراياتها وبنودها قد نُشرت خفّاقة هفّافة في كل مكان …
والناس في ثياب العيد قد تراصوا منذ الآن في الشرفات والطرقات وفوق الروابي والأعالي وأسطح البيوت، وأنغام الموسيقى تعزفها فِرَق الجنود أو جماعات الكشافة تنتقل من شارع إلى شارع، وأناشيد البنين وأهازيج البنات يهتف بها التلاميذ والتلميذات، تلك أمة مجاهدة جريحة لا تدري ماذا تصنع من الفرح وقد طرح عنها نِير الظلم وشُلّت يد الاستعباد.
وفي الساعة التاسعة والنصف بدأ الاحتفال الرسمي، ويُقام ذلك الاحتفال الكبير في شارع فاروق الأول، وهو من أفخم شوارع دمشق …
ذهبنا وجلسنا في أماكننا إلى أن أقبل فخامة رئيس الجمهورية وبدأ العرض العسكري، بين أمواج الجماهير الزاخرة المتلاطمة وعناقيد الناس المدلَّاة من المآذن والشجر وأعمدة المصابيح وأسوار الأبنية وأجراس الكنائس.
وسار في أول الموكب ثلة من جنود الدول العربية تحمل أعلامها مجتمعة يتوسطها العَلَم السوري (الأخضر والأبيض والأسود ذو الثلاث نجمات) فاستقبلته الجماهير بالتصفيق الحادّ…
وتتالت وحدات الجيوش العربية من سورية وعراقية ولبنانية وسعودية وشرق الأردن بقبعاتها وخوذها وقلانصها فصفقت لها الناس بحرارة …
لقد كان المنظر رائعاً ومهيباً، رؤية الجيوش العربية تسير سيرة الرجل الواحد، تحتفل بانتصار دولة عربية كأنه انتصارها، تبادرت لأذهاني ماذا لو توحدت الجيوش العربية تحت تسمية (جيش الوحدة العربية) وجعلته ضماناً لاستقلال الدول العربية والذود عنها ضد أي عدوان ؟؟؟؟ وانتهت خواطري هذه عندما بدأت المدافع تطلق من القلاع المحيطة بدمشق ابتهاجاً بالعيد … وبانطلاقها نُودي بالتكبير على المآذن ودقت أجراس الكنائس، ثم رعدت بالجو أصوات المحركات من الطائرات المصرية والعراقية وهي تذرع بالسماء بهزيمها المجلجل فوق مكان الاحتفال .
وانتهى الاحتفال بمثول المحافظات والأقاليم بين يدَيْ رئيس الجمهورية فخامة شكري بك القُوَّتلي، يحمل كل منهم حفنة من تراب إقليمه، يسلمه إليه رمزاً للولاء وطلب الرعاية وسؤالاً للعهد بأن يصون الوطن .
ثم اتجهت الجموع بعد ذلك إلى قلعة المزة حيث رُفع العَلَم السوري وسُميت باسم الشهيد الوطني “يوسف العظمة” كما سميت قلعة أخرى باسم سلطان باشا الأطرش.
في ذكرى الجلاء الفرنسي.. “نداء بوست” يستطلع آراء الناس في مهد الثورة السورية
وما أن دقت الساعة الرابعة حتى دوت شوارع دمشق بأبواق الميكروفونات تذيع خطاب الرئيس شكري بك القُوّتلي فوقفت الجماهير تصغي في سكون ولو أن إبرة ألقيت على أديم الطريق في وسط ذلك الزحام الصاخب لسُمع وَقْعها وحدها فقط مع صوت شكري بك القُوَّتلي وهو يصيح في ذلك الشعب المحرر …
” إننا نطوي اليوم صفحة الجهاد في سبيل استقلالنا لنفتح صفحة الجهاد لصيانته، وجعله واسطة لاستعادة الأمة ورقيها، وقد تكون صيانة الاستقلال أشقّ من الظفر به … إن مثلنا الأعلى الذي نتطلع إليه ليدعو اليوم أبناء هذه الأمة إلى التجرد عن الهوى والترفع عن الصغائر وإيثار المصلحة العامة على الخاصة “.
“نداء بوست” يستطلع آراء السوريين في ذكرى الجلاء: الأسد أكثر شراسة من الاحتلال الاجنبي
ماذا بعد الحرية؟
وقد سألتُ رئيس الحكومة السورية هذا السؤال فأجابني: الحرية ليست غاية في ذاتها إلا يوم تُفتقَد، أما متى ما وُجدت فهي وسيلة يجب أن يُحسن استخدامها وأمام سورية مشروعات إصلاحية واقتصادية وعمرانية واجتماعية قد تشبَّع بضرورتها الرأي العامّ”.
أخبار اليوم 20/4/1946