قمة “البيت الواحد” الأمريكية-الإسرائيلية الأخيرة تُكرّس العهد التاريخي بين البلدين: إسرائيل أولوية أمريكية؛ الأقوى عسكرياً في منطقتها، غير مسموح تهديدها؛ إضافة إلى أن مشروع إيران ضمناً “فزاعة” لصالحهما لاستنزاف واستغلال خيرات المنطقة، وإرعاب أهلها؛ والأهم، يكاد ما تفعله إيران يتفوق على مشروع إسرائيل الاستعماري؛ وهذا منجز تاريخي لإسرائيل، وأقل مفاعيله دفع العرب إيجابياً وتطبيعياً نحو محتل فلسطين وقدسها.
في قمة “الحصار” الأمريكية-العربية التي عُقِدَت في جدة، استكمال لجدار الحصار الجنوبي على روسيا، وخاصة على صعيد الطاقة، وجعل ذراع الغاز والنفط الروسي الابتزازي يدور في الفراغ. ذلك يأتي بعد إطباق الجدارين الشرقي والغربي عليها، حيث كان بايدن قد ذهب شرقاً، واجتمع مع منظومة “الكواد” والهند، معززاً الستار الحديدي المحيط بروسيا شرقاً، ومحذراً الصين من عقابيل تقليد روسيا في تايوان. أما الجدار الغربي الأوروبي، فلم يكن بحاجة لتعزيز أو استنفار، فالروس يضمرون اجتياحه، إذا ما وجدوا لذلك سبيلاً؛ وأوكرانيا ليست إلا بداية.
بالمقابل ينال الجانب العربي “كمشة” من التطمينات من الصديق والحليف التقليدي الأمريكي. فإذا كانت إسرائيل تسعى للتحرر من “الاعتمادية” في تلك العلاقة، بقولها إن لديها “سلاحها السري” الذي ذكرته “غولدا مائير” في لقائها الأول مع “بايدن” قبل ستين عاماً؛ ويتمثل هذا السلاح بأن / لا مكان آخر لقومها/؛ هناك مَن يقلقه مجرد الفتور في العلاقة بوجود من يتربص مستغلاً هكذا فتور أو فراغ، “والمقصود، ملالي طهران”، ليتحوّل إلى مصدر خطر وجودي. ومن هنا، كانت إعادة النبض والدفء للعلاقة الأمريكية-الخليجية، التي لا بد أن تصيب أنياب الوحش الإيراني بالاهتزاز.
الجدير ذكره، أنه في قمّتي بايدن، قضية السوريين تكاد لا تُذكَر، رغم أنها محور ارتكاز الأحداث، ومحدد اتجاهات الرياح في العقد المنصرم. لكن لأسباب لا حصر لها، يجعل المنخرطون في الشأن السوري منه ورقة وملعباً لتحقيق المصالح وتصفية الحسابات. ويزيد في الطنبور نغماً قمةٌ ثالثةٌ في طهران؛ يقول أصحابها: إن لا علاقة لها بقمم بايدن في المنطقة. وحقيقة الأمر، هناك ترابط عضوي بين ما أتى ببايدن إلى المنطقة، وما استعجل قمة طهران.
وفي عمق قمم بايدن-قبل الانتقال لقمة الأستانيين- لا بد من القول إن أمريكا تستشعر الفراغ الذي تركته خلال العقد الماضي؛ و”لن تسمح لأحد بملء هذا الفراغ”. هذا تجاه الأصدقاء التقليديين؛ وتجاه روسيا ترفع جدار الحصار؛ والقضية السورية مقدور على إدارتها؛ فالمسألة بالنسبة لها تبدو مجرد مساعدات لقضية إنسانية.
صحيح أن مهمة بايدن متعددة الأوجه؛ لكنه يبدو مستعدٌاً لفعل كل شيء في سبيل قطع الطريق على بوتين؛ فإذا ما تعافى بوتين، فهناك هزيمة تنتظر ليس فقط أوكرانيا والأوروبيين، بل هزيمة للناتو، ولحزب بايدن وللبيت الأبيض أيضاً. ومن هنا، يحمل بايدن على كاهله حماية مصالح الجميع تقريباً. فحلفاؤه الأوروبيون يؤرقهم حال عملتهم، ويرعبهم الشتاء القادم بخصوص الطاقة والتدفئة وغلاء الأسعار والتوترات المتوقعة في شوارع مدنهم.
وبالانتقال إلى قمة طهران -فليس كما في قمتي بايدن، حيث لم تكن القضية السورية إلا تفصيلاً عابراً أتى على لسان السعودية وقطر كتعاطف مع آلام ومعاناة السوريين- احتل الشأن السوري “إعلامياً” أولوية، حيث التأكيد على “وحدة” و”سيادة” و”عافية” سورية. إلا ان تلك الوحدة ليست واقعياً إلا تفتت، والسيادة في خبر “ما ظلَّ”. والعافية سقم وفقر وتشرد وإذلال. وعلى يد مَن يحدث ذلك؟! إنه بيد “المؤكِّدين” أنفسهم.
رغم التناقض الصارخ في مصالح ثلاثي هذه القمة، إلا أن منجزها الأكبر كان عدم التصادم، وحلّ المستعصيات على حساب الذبيحة، سورية. فإذا كان قد ثَبت بالدليل القاطع، مثلاً، أن إيران تدعم الإرهاب الذي تقول تركيا إنها تحاربه في الشمال السوري؛ فكيف يستقيم القول بأن تركيا وإيران اتفقتا على محاربة الإرهاب في الشمال السوري؟!
من جانب آخر، أن مجرد وجود بوتين في طهران، والتي لا يرى فيها عدد كبير من الدول إلا دولة مارقة، والاحتكاك بها “شبهة”؛ لدليل على عزلة بوتين الدولية؛ رغم مكابرته بأنه رغم الحرب في أوكرانيا يبقى لاعباً رئيسياً في الساحة الدولية؛ إلا أن هذه الساحة ليست إلا دماء وأشلاء السوريين والأوكرانيين وحطام بلادهم. وهذا ليس إلا شهادة هزيمة، لا شهادة قوة.
في واقع الأمر، يسعى بوتين للحفاظ على النفوذ الذي اكتسبته روسيا من سنوات من التدخل العسكري والدبلوماسي في الشرق الأوسط. فعندما يعزز علاقة موسكو مع إيران، “العدو الثاني” المفتَرض للولايات المتحدة، والتي ترزح أيضاً تحت ثقل العقوبات الغربية أيضاً، وجعلها شريكاً عسكرياً وتجارياً رئيسياً لموسكو؛ وعندما يحافظ على هذه العلاقة الاضطرارية المنتجة مع تركيا، فتلك منجزات ليست بقليلة.
قد يكون الأمر مختلفاً قليلاً بالنسبة لأردوغان، إلا أن جناه الشخصي من تلك القمة وافر في معادلة أو لعبة الأضداد. فعبر القضية السورية تمكنت تركيا من أن تكون على كل منبر يخص تلك القضية؛ فكما لإيران فيتو، ولروسيا فيتو فيما يخص القضية السورية، فلتركيا ليس أقل منهما. لقد نجحت في اقتطاع دور حاسم للتأثير في الحرب. مَن غير أردوغان، مثلاً، مرشحٌ للدور الأساسي في خطة محتملة لإنشاء ممر للحبوب المحاصرة في أوكرانيا؟
ويبقى السؤال الأساس، ما الذي يمكن أن يفعله السوريون تجاه كل ذلك؟ من أين سيأتون بداعم حقيقي شريف لقضيتهم، وكثيرون يدّعون العطف والصداقة والدعم؟! ماذا يفعلون، وقد تحوّلوا إلى “مكسر عصا”: نازحون قيد التهجير، مُستغَلون مبتزون قيد الإهانة، والفقر والوجع يحيط بهم من كل جانب، ومعارضتهم ترى في عملها وظيفة ومحاصصة، أمام السوريين التداعي لمخاطبة العالم فيما إذا كان ينوي تطبيق القرار الدولي 2254، وبأسرع وقت ممكن، أم لا؛ أو عليهم سلوك طريق بفرعين: واحد لحرب تحرر وتحرير قوامه خلايا صغيرة جداً لرد “الجميل” لكل من أوصلهم إلى هنا؛ والثاني طريق تنظيم وإعادة بناء الإنسان السوري.