أثار استقطاب التطور السياسي والفكري الملحوظ لحركة طالبان ونحوها باتجاه الدولاتية والمشاركة السياسية حتى مع خصومها السابقين سؤالاً لدى بعض المهتمين، وهو هل تستطيع تحرير الشام أن تعبر هي الأخرى من الجماعاتية المنغلقة إلى الدولاتية رغم اختلاف الظروف والسياق بين الجماعتين؛ بين جماعة محور اهتمامها تحقيق السيادة كطالبان وبين جماعة محور اهتمامها هو السلطة كتحرير الشام، والتي باتت تتقمص نظرية داروين في إسقاطها السياسي والاجتماعي لتنازع البقاء في السلطة كهدف غائيّ نهائيّ.
فمنذ أن أعلن زعيم تنظيم جبهة النصرة انشقاقه عن تنظيم الدولة الإسلامية الذي يقوده أبو بكر البغدادي في 2013، كان واضحاً للمتابعين أن الجولاني كان يبحث عن البقاء لنفسه على رأس جماعة جهادية يضمن لها الاستمرار، وقد ثبت ذلك منذ أن انتشر له التسجيل المسرَّب في عام 2015 وهو في أحد معسكرات جبهة النصرة في ريف حلب الشمالي، يَعِد فيه الجنودَ بإقامة المحاكم الشرعية وجباية الزكاة، وهو ما فُهم منه في حينه أنه بيان واضح لإقامة إمارة غير معلَنة وممارسة السلطة، بدون التورط بإعلان الدولة كما فعل رفيقه البغدادي، الذي أحرق المراحل نحو حتفه الأخير باستعجال قطف الثمرة.
وفعلاً بدأ الجولاني بإقامة المعسكرات وتجهيز القوة العسكرية لخوض معاركه مع فصائل الجيش الحر التي كان في مقدمتها جبهة ثوار سورية التي انتهت بتفكيك أكثر من عشرين فصيلاً لصالح زيادة تمدُّد تحرير الشام واستيلائها على قرار المحرَّر.
وهنا يُطرح السؤال ما هي الأدوات التي استعملها الجولاني في إخضاع المحرَّر؟ وما هي الإستراتيجية التي اتبعها في تحقيق ما توصلت له تحرير الشام اليوم من السيطرة شِبه التامة على المحرَّر؟ بالرغم من وجود الرفض الثوري والشعبي لوجودها، وهل يمكن لتحرير الشام أن تتحول من الحالة الفصائلية إلى الدولاتية؟
وبالحديث عن أدوات تحرير الشام في البقاء نعدِّد منها: إدراك تحرير الشام لأهمية التموضع الذي يمنع استهدافه دولياً وإقليمياً وذلك من خلال القيام بعدة خطوات منها إعلان فك الارتباط بتنظيم القاعدة ثم القطيعة مع أيديولوجيا السلفية الجهادية وإعطاء التطمينات للمجتمع الدولي أن سلاح تحرير الشام لن يستهدف أي جهة خارج الحدود وأن معركة تحرير الشام هي مع النظام السوري أساساً.
ومن ضِمن الخطوات التي اتخذتها تحرير الشام للحفاظ على البقاء كان الإمساك بملفات أمنية مهمة للدول واحتكار هذه الملفات والاستعداد للمساومة عليها، مثل ملف المقاتلين الأجانب، حيث بدأت تحرير الشام حرب استئصال على التنظيمات الجهادية الأكثر تشدداً مثل جند الأقصى وتنظيم الدولة وحراس الدين وتنظيم داعش، وهو ما كانت تنظر له الجهات الدولية والإقليمية بعين الرضا، وكان الجولاني يلعب هذا الدور باحترافية عالية، بعد أن استعمل أغلب هؤلاء المقاتلين الأجانب في قتال الفصائل بذريعة أن فصائل الجيش الحر تعهَّدت للغرب بقتال المهاجرين وطردهم من سورية.
كانت أهم الخطوات الإستراتيجية لتحرير الشام هي شراء الزمن بالمكان والسعي الدائم للمحافظة على الوجود باستمرار مقابل التضحية بالملفات الهشة -حسب تقديرها- فقد تركت مركب تنظيم الدولة عندما أحست أنه أوشك على الغرق، وانتقلت النصرة في حينها إلى مركب القاعدة كخيار تكتيكي ثم فاصلت السلفية الجهادية، وهكذا حتى تحولت لفصيل محلي بمشروع تتلخص أهدافه بالحفاظ على السلطة ضِمن بقعة جغرافية صغيرة في شمال غربي سورية.
كما قام الجولاني وهيئة تحرير الشام بتسليم الكثير من المناطق المحررة وأحياناً بدون قتال جِدّي أو من خلال معارك وهمية ذات طابع استعراضي، وذلك باستعمال العمليات الاستشهادية التي تثير عواطف الجمهور، وهي العمليات التي عادت تحرير الشام لمنعها لاحقاً، وكان الجولاني يحذر دائماً من خوض معارك استنزاف تُفقده العدد والعتاد بينما تبقى الفصائل بقوتها، وكان يحاول توزيع الاستنزاف البشري والمادي على باقي الفصائل لكي يبقى فصيله موفور القوة متماسك البنية أمام استحقاق الصراعات الداخلية مع الفصائل.
ثم بدت مرونة الجولاني واضحة لدى الدول واستعداده للتفاوض منذ أن وقع اتفاق المدن الأربع مع إيران حيث ظهر الرجل أنه قابل للتفاوض والمساومة، كما قام الجولاني بتنفيذ كامل لمخرجات اتفاق أستانا، وقام بحراسة نقاط المراقبة التركية والدوريات الروسية، وهو ما عزز الحاجة له كفصيل محلي قادر على التماهي مع التسويات بالوقت الذي كان يقاتل فيه جيش المجاهدين وأحرار الشام بحجة أنهم شاركوا في مؤتمر أستانا ويريدون إدخال الجيش التركي لقتال المجاهدين.
كما عملت تحرير الشام على عدم الوقوع بفخّ العزلة، فقد حرصت على نسج التحالفات المرحلية مع فصائل الجيش الحر من أجل سحب التصنيف إن حصل على جميع الفصائل أو النجاة من التصنيف مع باقي الفصائل، كما حصل ذلك في تجربة جيش الفتح الذي ضمّ العديد من الفصائل المقاتلة، ثم بطرح مشروع اندماج تحرير الشام بعد خسارة حلب وسقوطها ثم غرفة "وحرض المؤمنين" والتشارك حتى مع فصائل الجيش الوطني الذين كانت تَصِمُهم بالعمالة والفساد والخيانة وعملاء الناتو وأحيانا بالردة، ثم حالياً بطرح مشروع المجلس العسكري الذي تعمل على تحويله إلى سلطة تسيطر عليها تحرير الشام، كما عملت في القطاع المدني من خلف حكومة شكلية هي حكومة الإنقاذ كوجه مدني، والاكتفاء بممارسة السلطة من الخلف وتجنب الانعزال المفضي للاستهداف، وقد رفضت تحرير الشام في نهاية 2016 إخراج 150 عنصراً من جماعاتها من حلب كشرط لوقف الهجمة الروسية على المدينة خوفاً من العزلة السياسية والعسكرية المفضية إلى استهدافها.
ولقد كانت تحرير الشام تدرك أهمية السيطرة على الاقتصاد لترسيخ سلطة شمولية على المحرَّر وأهمية الموارد لشراء الولاءات وإضعاف قوة الخصوم والمنافسين، فاستولت في سبيل ذلك على جميع موارد وتجارة المناطق المحرَّرة من نفط وغاز وقمح وسوق صرافة وبيع أراضي المشاع والسيطرة على المعابر التجارية واحتكار المواد الغذائية الضرورية المستورَدة وبناء شبكة سرية من الاستثمارات الخارجية وبيع السلاح في السوق السوداء.
كما عملت تحرير الشام على بناء جهاز أمني متطوِّر جِداً بالمقارنة مع باقي الفصائل وأنفقت عليه الأموال الطائلة، واستطاعت من خلاله اختراق الفصائل التي فكَّكتها فيما بعدُ والتي لم تقاتل أصلاً بسبب الاختراق الكبير ضِمن صفوفها.
وكانت من مهامّ هذا الجهاز مراقبة حركة الانشقاق داخلها حيث قامت بإجهاضها في مهدها بدون أن تؤثر هذه المحاولات على تماسُكها، كما في حادثة انشقاق جيش الأحرار الذي سلبته سلاحه الثقيل، وفي حادثة انشقاق جماعة جمال زينية المُكنَّى بأبي مالك التلي واعتقال أبي عمر سراقب ثم مقتله فيما بعد أن فكر بحركة انشقاقية عن الجولاني.
كما كان للمكتب الأمني دور كبير في جني الأرباح الاقتصادية من عمليات خطف الأجانب والمساومة عليها بالفدية ومراقبة الحوالات المصرفية لعناصر داعش التي كانت تصل لمدينة سرمدا ثم يتم تحويلها إلى الرقة.
وكانت الأداة الإعلامية هي الأهم في إستراتيجية تحرير الشام حيث كان الجولاني يدرك أهمية المعركة الإعلامية، وهذا ما انعكس على خطابه وصوره في الجبهات ومع المدنيين ومخاطبة الناس حتى طريقة اللباس كانت مدروسة بعناية، وكانت إدارته للجيوش الإعلامية الرديفة متقنة للغاية، حيث كان يمهد لكل خطوة سياسية أو عسكرية، تتعلق بقتال فصيل أو تسليم منطقة أو الإقدام على تحوُّلات سياسية كبيرة بحملة إعلامية قوية على الإعلام الرديف من خلال غرف الأخبار والسوشيال ميديا وغرف الواتس والتلغرام حتى تتحول إلى رأي عامّ ضاغط يوقع الخصوم بالهزيمة النفسية ويحشد جنود تحرير الشام تجاه المعركة الجديدة.
بهذه النظرة الفاحصة لسياسة تحرير الشام من أجل البقاء نجد أنها أعادت تشكيل ذاتها على طريقة هجينة، وبنموذج من تحالُف المصالح لا يمكن أن يكون جزءاً من الدولة حيث أصبحت مصالحها الفصائلية والجماعاتية تتناقض تماماً مع فكرة الدولة والشراكة الوطنية التي تتطلب بشكل أساسي تفكيك منظومات ما دون الدولة.
ورغم كل ما تنتجه اليوم من صورة جميلة للمؤسسات والإدارات المشابهة لكينونة الدولة لكنها في حقيقتها مجرد أدوات لتعزيز سيطرة ومشروعية الفصيل والجماعة وقناع تنكُّري يحجب إدارة الظل الحقيقية عن العِيَان ويَحُول دون بناء مؤسسات حقيقية تُخفي حالة الاختزال للثورة السورية بكل قُواها المدنية والسياسية على الأرض في تحرير الشام وتختزل تحرير الشام في مشروع شخص واحد هو الجولاني.