بعد جدالٍ دام لأشهرٍ وبعد مفاوضاتٍ مضنيةٍ بين أنقرة، وهيلسنكي، واستوكهولم بين أن تقبَل أنقرة انضمام الأخيرتين للناتو أو لا تقبل.
أمس عصراً ولساعاتٍ ثلاث من المفاوضات بين أنقرة، وهيلسينكي واستوكهولم، وافقت الأولى أخيراً على قبول انضمام الدولتين السويد، وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” بعد أن حصلت أنقرة من الدولتين على “تعاوُن كامل” منهما، ويأتي بمقدمة هذا التعاون إعلان تضامُن الدولتين الكامل والتامّ مع تركيا بمكافحة الإرهاب بكل أشكاله، وجاء بيان مذكرة التفاهم على منع الدولتين من أن تقوما بأي دعم أو جمع لأموال، أو نشاطات لتجنيد الأكراد، وسيعملان أيضاً على حظر الدعاية الإرهابية الموجهة ضد تركيا، وكذلك تعهدت الدولتان برفع أي حظر فرضتاه على الصناعات الدفاعية التركية الذي جاء على خلفية العمليات العسكرية التي قامت بها أنقرة في الشمال السوري.
فقد التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الفنلندي ساولي نينستو ورئيسة وزراء السويد ما جدالينا آندرسن قبل سُوَيْعات من افتتاح المؤتمر الرسمي لقمة الناتو الذي تحتضنه العاصمة الإسبانية مدريد. فقد وقّعت الدول الثلاث على مذكرة تفاهم عُنونت بـ”تركيا حصلت على ما أرادت”.
من جانبه، قال الأمين العامّ لخلف الناتو بعد التوقيع على مذكرة التفاهم: “سندعو السويد وفنلندا للانضمام إلى عضوية الناتو بعد القبول التركي لانضمامهما بشكل رسمي”. وأردف قائلا: “الدولتان التزمتا مستعدتين للعمل مع تركيا بشأن تسليم المجرمين الإرهابيين”.
البيت الأبيض رحَّب بموافقة أنقرة على انضمام الدولتين للناتو التي انتظرها طويلاً، وذكر البيت تعليقاً على موافقة تركيا أنها لم تطلب تنازُلات من واشنطن فيما يخص قبولها انضمام الدولتين معتبراً أن هذا القبول يعتبر عاملاً قوياً يصبّ في الوحدة الأوروبية.
أنقرة من جانبها وعلى لسان الرئيس التركي قال قبيل التوقيع على مذكرة التفاهم: “إن وجود تركيا في خلف الناتو منذ سبعين عاماً لم يكن بالصدفة”، وأضاف: “فما نحن بحاجة إليه الآن نتائج لا أقوال وكلام فارغ من الدولتين”.
الاعتراض التركي على دخول الدولتين طيلة الفترة الماضية كانت له أسبابه فهي ترى أن الأمن يأتي في صلب مهمة الناتو، ومن الأهداف التي يعمل عليها ويسعى لتحقيقها الجوانب الأمنية التي تهم أعضاءه، فحلف الناتو كما تراه أنقرة حلف أمني بالدرجة الأولى، فأنَّى لها أن تقبل بانضمام الدولتين “السويد وفنلندا” وهاتان الدولتان لا تؤمنان بأهداف الناتو الأمنية ولا تعملان على احترام الهواجس الأمنية لأعضاء الحلف والذي يأتي على رأسها محاربة الإرهاب؟ فكيف يستوي دخولهما للناتو وهما تدعمان حزب العمال الكردستاني، وتمدان له يد العون في وقت تعتبره أنقرة منظمة إرهابية؟ وهما أيضاً تأويان عناصر من جماعة فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بأنه العقل المدبر والمخطط للانقلاب الفاشل الذي حدث في صيف عام 2016.
تركيا حصلت من الدولتين على التزامهما الكامل بما طلبت وكذلك تأييد الناتو لمطالبها ولهواجسها الأمنية التي كانت تخشاها، فالتزمت الدولتان السويد والنرويج بما أرادت أنقرة التي لم ترغب أن تقبل انضمام الدولتين له إلا في محفل يجمع أعضاء الناتو على هامش انعقاده في مدريد، وأرادت أنقرة كذلك أن يكون التزام وتعهُّد وتوقيع مذكرة التفاهم أمام أعضاء الناتو مجتمعين، والذي سيعقبه لاحقاً التوقيع على مذكرة التفاهم هذه في عواصم الدول الثلاث تركيا والسويد وفنلندا.
استوكهولم وهيلسينكي لم توافقَا فقط على التعاون الكامل، بل أذعنتا لما تريد أنقرة، فهما ليستا في وارد إلا أن تقبلا أو أن تقبلا بما فرضته أنقرة، فقد وجدتا نفسيهما أمام ما يشبه عقداً من عقود الإذعان، الطرف القوي هو من يضع شروطه، والطرف الضعيف إما أن يقبل بالعقد بما فيه من شروط كما هو دون أن يكون له الحق بمناقشة شروطه، أو أن لا يقبله بالكلية ولا يوقع عليه، وهذا ما لا تستطيع الدولتان أن تفعلاه فكان أن وجدتا نفسيهما مجبرتين على التوقيع على العقد ومذكرة التفاهم وفق شروط أنقرة فكان النصر التركي الذي عملت عليه مذكرة التفاهم. ما جرى اليوم يذكرنا باتفاقية أضنة المذلّة التي وقعها حافظ أسد مع تركيا في عام 1998 وقبل بالشروط التركية كاملة كما هي لأنه كان بحاجة لأن يوقع عليها كاملة كما أرادتها أنقرة، وكان يعني عدم التوقيع عليها الحرب مع أنقرة التي كان يخشاها حافظ أسد لأنه كان يعرف عواقبها.
لا شك أن تركيا وازنت بين مصالحها ومصالح وحاجة مَن يريد الانضمام للناتو، فوجدت حاجة هيلسينكي واستوكهولم كبيرة جداً بالانضمام إليه وخاصة في هذا الوقت التي تستعر فيه الحرب الروسية الأوكرانية، ولاسيما أنهما دولتان محاذيتان وجارتان لروسيا وهما تعرفان ماذا تعني هذه المحاذاة وهذا التجاور لروسيا وما يثيره من هواجس أمنية بالنسبة لهما.
تركيا لا ريب أنها قُدّم لها عروض أيضاً من الجانب الروسي كي تظل على موقفها
بعدم الموافقة على انضمام الدولتين للناتو، ولكنها رأت أن ما قدمته الدولتان لها وربما ما قدمته أيضاً واشنطن ومعهم أعضاء الناتو مجتمعين لهو أكبر وأهم بكثير مما عرضته روسيا عليها، فمسألة الأمن القومي التركي هي الهاجس الذي يقض مضاجع أنقرة، وتأمين حدودها الجنوبية، ومحاربة وتقزيم الإرهاب، وتجفيف منابعه من التنظيمات الانفصالية الكردية والذي يأتي على رأسه حزب العمال الكردستاني الذي بينه وبينها ما صنع الحدّاد، وتجنيد حلف الناتو وأعضاؤه مجتمعين لتبني مصلحتها ونظرتها وأفكارها في هذا الاتجاه لهو المصلحة الراجحة التي رأتها أنقرة، وتغلب على كل مصلحة مرجوحة يقدمها باقي المقدّمون.
الخاسر الأكبر من انضمام السويد وفنلندا إلى الناتو هي روسيا، فقد غزت أوكرانيا بعملية خاصة كما أسمتها وأرادتها أن تكون خاطفة سريعة تحتل فيها أوكرانيا لتكون عِظَة لكل دولة تفكر بالاقتراب من الغرب، وتبني أفكاره أو السير نحو حلفه، ولكن ما حدث العكس تماماً؛ فقد كشفت روسيا بمغامرتها غير المحسوبة العواقب والمستنقع الأوكراني وطينه الذي وجدت نفسها فيه أن فتحت الباب أمام الدول الأخرى لتنضم إلى الاتحاد الأوروبي وللناتو، بعد أن رأت هذه الدول أن روسيا التي كانت ترعبهم وتخيفهم وتهابها من أن يقتربوا من الغرب لأجلها اتّضحَ أنها نمر من ورق، لا تستطيع أن تفعل شيئاً في واقع الأمر، الأمر الذي حدَا بالسويد وفنلندا أن تنضما للناتو وتقبل الدولة الوحيدة تركيا -التي كانت ترفض دخولهما بالأمس- دخولهما إليه اليوم لا بل حتى أوكرانيا قدمت طلب الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والذي وقريباً سيوافق على طلبها، كل هذا لم يكن ليحصل لولا السياسة الخرقاء التي اتبعتها روسيا، فقد كانت تظن وبعض الظن ها هنا إثم، أن فائض القوة التي كانت تحسب أنها تملكها لم يكن في حقيقته إلا فائضاً من وهن، ومن ضعف، انكشف للجميع فباتت كل الدول التي تحيط بروسيا تطلب -وبلا وَجَل أو خشية- الانضمام للناتو وللاتحاد الأوروبي، ما دفعهم إلى ذلك سياسة خرقاء للدب الروسي الذي حاول استعراض عضلاته التي كان يظن أيضاً أنها عضلات مفتولة.
وإذ بهذه العضلات عضلات محقونة بهرمونات ليس إلا،فلو كانت سياسة الكرملين وبوتين حكيمة لاستطاع أن يأخذ كل ما يريده كما أخذت أنقرة كل ما تريده من حلف الناتو بموافقتها على انضمام الدولتين، الذي بدا أن المثل الشعبي المعروف عندنا” خَوّف بعصاك ولا تستعملها” لا تعرفه روسيا بدليل أنها استعملتها، وانتهى الأمر ولم يَعُدْ أحد يخاف من أن تستعملها.
ربما ما يُطرح من أسئلة الآن بعد أن وافقت تركيا على انضمام السويد وفنلندا للناتو، والتي كانت روسيا تعول على تركيا ألا توافق على انضمامهما إليه، وهذه الموافقة التركية وقد جعلت من عضوية البلدين في حلف الناتو تقترب أكثر من أي وقت مضى ليصبح في أحضان روسيا، تُرى والحال على ما ذكر ما شكل العلاقة التي ستكون عليها علاقة روسيا بتركيا بعد موافقة الأخيرة لأن يطرق الناتو بابها, وهل ستجعل روسيا هي الأخرى باب تركيا يُطرق بالقرب من حدودها؟ لننتظر فيا فوز المنتظرين.