بعد فشلها في العودة إلى الساحة العالمية عبر البوابة السورية من خلال الاستخدام المفرط للقوة العسكرية وبذريعة مبدأ الحفاظ على كيانات وسيادات الدول، ومنع تغيير أنظمتها بالقوة؛ قررت موسكو-وفي درعا! بالذات- أن تلبس ثوب "الوسيط" بين مَن سمّاها وزير خارجيتها "لافروف" يوماً بـ "البؤر"، التي يجب اجتثاثها، من جانب، والسلطة "الشرعية"، بمفهوم موسكو، من جانب آخر.
تجربة موسكو الأخيرة في درعا كانت الأوسع والأعمق والأكثر تطورًا من "مصالحات" أجرتها سابقاً بين "نظام الأسد"، ومناطق ترفض سلطته. في درعا أوهمت موسكو السوريين الثائرين والعالم أيضاً بأنها "وسيط" فعلاً، ودلّلت على ذلك بعدم تدخل طائراتها أو صواريخها نصرةً لـ"النظام" وميليشياته الإيرانية على الأرض؛ ولكنها في الوقت ذاته كانت تراهن على عدم توازن القوى على الأرض؛ فناورت وهددت الفريقين ببعضهما بعضاً. ورسالتها ها هنا للعالم وليس للفريقين، بأن روسيا تسنّمت وضعاً جديداً: "الوسيط".
وبذا تنجح و"النظام" من جانب بصرف أنظار السوريين عن الكارثة الاقتصادية التي تمر بها سورية، وإشغالهم بما يجري في درعا؛ ويستطيع "النظام" التبجح بأولوية "تحرير البلاد من الإرهابيين"، وما من وقت لدية للالتفات لقضايا حياتية أساسية؛ ومن جانب آخر، تثبت روسيا لإسرائيل، التي تتظاهر بالانزعاج من التواجد الإيراني بجوارها؛ أن روسيا هي مَن يتدبّر الأمر. والغاية ها هنا "شَدْشَدة" العلاقات "الروسية-الإسرائيلية" بعد غياب صديق بوتين المفضَّل "نتنياهو".
أما الرسالة الثالثة والأهمّ فهي للولايات المتحدة الأمريكية، والتي لا بد تعهَّد "بوتين" لرئيسها بأن يساهم بتخفيف التوترات العالمية؛ كما تعلن إدارة "بايدن". أما رسالة موسكو الرابعة فهي استكمال محاولاتها -التي لم تنقطع- لإعادة تكرير منظومة الاستبداد من خلال دفع دول عربية لإعادة علاقاتها مع منظومة الاستبداد؛ ولعب موسكو لدور "الوسيط " في الداخل السوري يرسل صورة مغايرة عن روسيا المتدخلة إلى جانب النظام بالسوخوي والفيتو.
إلا أن الحلبة لم تكن مناسبة للدب الروسي، حتى ولو لبس زي راقصة محتشمة؛ فحتى اللحظة، ينام الجنوب على اتفاق، ليصحو على خرق له من قِبل "نظام" تعهد بحمايته.
ويبقى السؤال الأهم؛ لماذا تذر الرياح مساعي روسيا؟ والطفل في سورية يجيب: ببساطة لأن موسكو غير صادقة؛ فلا يمكن لعاقل أن يصدق أن "النظام" الذي يدين لها ببقائه يخرج عن طوعها ويناكفها ويخرّب ما تهدف إليه.
والدلائل الإضافية على عدم صدقها وغباء سياستها في الوقت ذاته تتمثل بعدم وفائها لعهد أو صونها لاتفاق. فالخرق في درعا هو لاتفاق وقّعت عليه موسكو ذاتها عام 2018. وكل الأمكنة التي تستهدفها طائراتها هي مناطق "خفض تصعيد" حسب تسميتها في "أستانا".
إن الجهة الأكثر معرفة بعدم صدق موسكو هي واشنطن بالذات. فهي تعرف أن موسكو مُربَكة وتراوغ وتخدع؛ وربما ذلك يطيب لواشنطن؛ فهي تسجِّل عليها الفشل تِلو الآخر من جانب، ومن جانب آخر، مَن قال إن واشنطن تريد للمأساة أن تنتهي؛ فهي دون كلفة أو جهد تنجز لها ولإسرائيل ما يتجاوز الحلم بتدمير محيط الأخيرة، واحتواء المناكفين، واستنزاف الطامعين الخلبيين.
من جانبها موسكو لم تلتقط الإحداثيات تماماً، وتستمر في المسار المحكوم بالفشل، وتصر على إعادة تكرير "منظومة الاستبداد"، وكأن صناعة معجون الأسنان من الغائط ممكنة. فحتى الدب يمكن أن يتعلم من سقطاته؛ ولكن روسيا ربما تتمتع بتكرار الأخطاء. إن ثوبها "الإنساني" بشع وملوث بالدم؛ فما بالك عندما تلبس غير لبوسها، وهي التي لم تتعوّد على احترام حياة الإنسان- ومثال الشيشان قد يكون الدليل الصارخ على ذلك؛ ولكن السوريين رأوا أفعالها في المثال السوري الذي تجاوز الشيشان.
رغم هذه الصورة القاتمة لموسكو والمشهد الذي تتحرّك به، إلا أن فرصة درعا فريدة من نوعها في التقاط فرصة تغيير مسار الدم وإزاحة الصورة البشعة التي رسمتها موسكو في أذهان السوريين.
يصعب على سوري أن تغيب من ذهنه صورة تباهي موسكو بمئات صنوف الأسلحة التي جرّبتها على أرواحهم وبيوتهم؛ ولكن زجر ذاك الذي يستحيل تكريره وتفويت الفرصة على مَن يراكم تسجيل أخطائها في سورية وغيرها، والالتفات –ولو مرة- لأناس يقفون عند كرامتهم ويطالبون بحق البقاء في بيوتهم قد يخفف من وقع تلك الصورة الموسكوفية البشعة. كتبتُ هذا سابقاً؛ وها أنا أكرره ثانية وثالثة؛ إلا أن ثقتي تكاد تكون معدومة بتحققه.
ويبقى حل القضية السورية في النهاية مسؤولية السوريين السوريين ولا أحد غيرهم: تشخيص حالهم وتحليله أحداثاً وأسباباً ونتائجَ أكثر من واضح؛ غيابهم أو تغييبهم كان مطلوباً؛ تدويل قضيتهم كان الممر الإجباري؛ تبعثرهم ليس فقط من صناعة أيديهم؛ تباعد قلوبهم لم يكن داء حلَّ فجأة؛ أما إعادة بلدهم إلى سكة الحياة فلا يكون إلا بأياديهم؛ وهم قادرون على ذلك. الأمر يحتاج إلى إرادة وعقل وثقة وعمل. لا بد من طيّ صفحة الماضي القريب في العمل السياسي. العقلاء والحكماء كُثر بينهم. لا بد من آباء مؤسسين لحقبة النور القادمة النظيفة من داء عمره نصف قرن. كل بلدة أو منطقة أو مدينة فيها كفايتها من الشجعان العقلاء والحكماء؛ فلتحدد كل واحدة حاجتها منهم، وليتم تواصُلهم وليؤسسوا -أكانوا في الداخل السوري أو في الشتات الداخلي أو الخارجي- عنوان عمل وطني يعيد وضع سورية حرة سيّدة مستقلة على خارطة عالمنا؛ وكل مَن هو غريب على تلك الخارطة ليس أمامه إلا هذا العنوان.