بتاريخ 3 أيار، أعلنت المحكمة الدستورية العليا في دمشق عن حصول ثلاثة مرشحين -من ضِمنهم الأسد- على الأصوات المطلوبة من قِبل مجلس الشعب من أجل خوض الانتخابات المزمع تنفيذها بتاريخ 26 أيار الحالي. ستجري هذه الانتخابات في ظل توقُّف كامل للعملية السياسية التي تبنتها الأمم المتحدة عَبْر بيان جنيف لعام 2012 والذي تضمن إقامة هيئة حكم انتقالي، وعدم تطبيق للقرار الأممي 2254 لعام 2015 الذي صادق على بيان جنيف، وأكدّ أن الحل الوحيد في سوريا يتم عبر عملية سياسية تفاوضية بين النظام والمعارضة تؤدي إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة وبإشراف دولي في ظل "بيئة آمنة وهادئة ومحايدة".
ما هي البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة؟
تعني هذه العبارة أن عملية الاختيار الحر للشعب يُفترض أن تجري ضِمن ظروف طبيعية، من كل الجوانب السياسية والأمنية والقانونية، وأن الممارسة السياسية وعملية الاقتراع يجب أن تجري ضِمن بيئة خالية من العنف والترهيب والإكراه، قبل عملية الاقتراع وأثناءها وبعدها. وبهذا المعنى فإن البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة هي مجمل الظروف والشروط القانونية والأمنية والسياسية التي يجب توفرها ضِمن دولةٍ ما ليتمكن الشعب من تحقيق إرادته بشكل نزيه.
لماذا مفهوم البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة مهمّ الآن؟
القرارات الدولية آنفة الذكر أصبحت تُشكِّل مرجعية قانونية لساسة سوريا، موالين كانوا أم معارضة، لأن طرفَيِ الصراع (النظام والمعارضة) قد قبلا بهذه القرارات وألزموا أنفسهم بتطبيقها من خلال الانخراط في العملية السياسية المُدارة من قِبل الأمم المتحدة. ما يترتب على هذا هو أن أي عملية انتخابية في سوريا لا تُدار في بيئة آمنة وهادئة ومحايدة وفقاً للتعريفات الدولية هي غير شرعية ولا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بنتائجها محلياً أو إقليمياً أو دولياً.
ويمكن اختصار عدم توفير النظام السوري البيئة الآمنة والهادئة والمحايدة في مدخلين: قانوني وأمني.
القانون السوري يضمن عدم حيادية الانتخابات
إن البيئة القانونية والتشريعية في سوريا لا تستمد شرعيتها من الشعب وَفْق انتخابات حقيقية بل تُرسَم من قِبل دوائر خاصة بالقصر الجمهوري، حيث يتولى بشار الأسد إصدار قوانين وتشريعات تحت بند المرسوم التشريعي، جميع الاستحقاقات الانتخابية التي جرت في سوريا بعد عام 2011 ، وحتى الآن تمت عَبْر نصوص دستورية وقانونية فصّلها النظام على مقاسه ومن طرف واحد فقط، وهو ما ينطبق على الانتخابات الرئاسية الحالية.
يحرم دستور 2012 -وكذلك قانون الانتخابات المعمول بهما- كافة المعارضين ممن هم خارج البلاد من الترشح لمنصب رئيس الجمهورية، بالإضافة لاشتراط قبول الترشح بموافقة 35 عضواً من أعضاء مجلس الشعب لدى النظام السوري، علماً أن تركيبة المجلس معلومة إذ يسيطر حزب البعث على 166 مقعداً من أصل 250.
تُشرف المحكمة الدستورية العليا على انتخاب رئيس الجمهورية، علماً أن هذه المحكمة غير مستقلة إذ يسمي أعضاءَها رئيسُ الجمهورية بمرسوم، وهو بالطبع ما سيكون له تأثير على أية قرارات تُصدرها المحكمة، كما لا يُسمح للجنة القضائية العليا للانتخابات -بالرغم من عدم استقلاليتها أيضاً- بالتدخل في الانتخابات الرئاسية، ويقتصر عملها على الإشراف على انتخابات مجلس الشعب والإدارة المحلية.
لقد استثنى قانون الانتخابات العامة كافة اللاجئين من المشاركة في عملية التصويت؛ إذ لا يُسمح لهم في المشاركة إلا لمن كان يحمل جواز سفر ساري المفعول، ويملك ختم خروج من أحد المعابر الرسمية، وهذا لا يتوفر لأغلب اللاجئين ممن هربوا من بطش النظام وآلته العسكرية، أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام فلا تتم فيها انتخابات نهائياً، علماً أن عدد أبناء الشعب السوري ممن يعيشون خارج مناطق سيطرة النظام هو أكبر من عددهم في مناطق سيطرته.
الأمن والجيش يخلقان بيئة غير آمنة
قبل بداية أي استحقاق انتخابي في سوريا تستنفر الأجهزة الأمنية من أجل تحديد الأشخاص الذين يجب أن ينجحوا في الانتخابات، وذلك في انتخابات مجلس الشعب ومجالس الإدارة المحلية بالتنسيق مع مكتب الأمن الوطني وحزب البعث الحاكم. أما في انتخابات رئاسة الجمهورية تُحدد هذه الأجهزة "الكومبارس" الذين يقدمون طلبات ترشح لمنصب رئيس الجمهورية، وكذلك الإيعاز لأعضاء مجلس الشعب من أجل تقديم تأييدهم الخطي لمن سيتم قبول طلب ترشيحه النهائي وسيشارك في الانتخابات الصورية أمام بشار الأسد.
كما تقوم هذه الأجهزة عَبْر أقسام خاصة بها -تُدعى عادة بقسم النشاط الهدّام– بتهيئة الشارع السوري عبر بثّ الإشاعات حول العواقب السلبية لكل مَن لا يشارك في الانتخابات ودفع شرائح المجتمع –وتحديداً موظفي الدولة– بالخوف والترهيب من أجل المشاركة بها من أجل عدم التعرض للمساءلة من قِبل الأجهزة الأمنية.
وتقوم أيضاً هذه الأجهزة الأمنية بإرهاب القطاعات المدنية الأخرى عبر التهديد بقطع الخدمات والمساءلة عن سبب عدم المشاركة والتصويت لبشار الأسد، حيث يمكن أن يتطور الأمر لمعاقبة مناطق معينة بشكل جماعي (قطع الخدمات القليلة أصلاً – إيقاف المساعدات) في حال كانت نسب المشاركة قليلة، بالإضافة للاعتقال والملاحقة القانونية للأشخاص ذوي التأثير في مجتمعاتهم المحلية في حال لم يعلنوا عن تأييدهم لبشار الأسد.
من جهة ثانية تُشرف شعبة المخابرات العسكرية على عملية الاقتراع التي تُجريها المؤسسة العسكرية، علماً أن هذه المؤسسة مضمونة الولاء لسببين رئيسيين هما: الأول طبيعة العصبية الطائفية التي تخترق صفوف الجيش والقوات المسلحة في كافة المستويات وكون أغلب مُنتسبيها هم من الطائفة العلوية التي ينحدر منها بشار الأسد. أما الثاني فهو العقيدة الحزبية لحزب البعث العربي الاشتراكي التي تسيطر على الجيش، وإن كان هذا مجرد غطاء للسبب الأول، وهذا بالطبع يساعد على رفع نسبة التصويت كون جميع أعضاء المؤسسة العسكرية هم ناخبون خالصون ونسبة المشاركة من قِبلهم هي 100٪ وهذا لا يتوفر في بقية شرائح المجتمع.
لا انتخابات حقيقية في غياب حلّ سياسي
إن قيام الشعب السوري بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة على كافة مستويات الدولة (رئاسية – مجلس الشعب – الإدارة المحلية) هو حق طبيعي تم سلبهم إياه منذ عقود، وأية محاولة لإعادة هذا الحق الأساسي يجب أن تخضع لشروط موضوعية أهمها إيجاد بيئة لإجراء العملية الانتخابية كما تنص عليه القرارات الدولية.
قد لا تؤدي القرارات الدولية وحدها إلى زوال النظام، ولكن ما توفره هذه القرارات للشعب السوري هو الركيزة القانونية لرفض شرعية انتخابات بشار الأسد جملة وتفصيلاً، كما أن الأطراف الإقليمية والدولية التي أخذت على عاتقها تطبيق القرارات الدولية –على الأقل من الناحية النظرية– أيضاً مُلزَمة برفض الانتخابات ونتائجها لعدم تحقيقها الشروط البيئية المنصوص عليها.
النظام السوري هو مَن مَهَّد وأوجد البيئة المضطربة غير الآمنة والهادئة والمحايدة عَبْر ممارساته على مدار العقود الخمسة الماضية، ولم يغير سلوكه القمعي والسلطوي في أية مرحلة من المراحل، بل إن جُلَّ ما تغير هو طريقة إدارته لبعض الأدوات فقط، ضارباً بكل المبادرات السلمية من أجل إيجاد حلّ سياسي عُرْضَ الحائط. بدون هيئة حكم انتقالي ودستور جديد وإصلاح قطاعَيِ الأمن والجيش لا معنى لأي عملية انتخابية في سوريا اليوم ومستقبلاً.