لم يعد الحديث عن الوطنية السورية اليوم ترفاً فكرياً، أو سفسطة نظرية لا أهمية لها، ولا ضرورة لإعادة توطينها ووجودها في الواقع السوري، بل إنها، ونتيجة كل ما جرى تحت الجسر منذ عشر سنوات خلت، أضحت ضرورة وجودية لا بد منها ومن إعادة إنتاجها، لكن على أسس جديدة ومتجددة تستوعب الجميع وتبني سوراً عالياً من محيط متين لا يُمكن الاستغناء عنه، حتى بوجود ماهيات اثنية وطائفية كثيرة ومتعددة.
وبات في حكم المؤكد أن المسألة الوطنية في سورية من القضايا ذات الأهمية الكبرى عند الغوص في جوانيَّة الواقع السوري المتحرك والآيِل إلى ملاذات أخرى تفتيتية ومتشظِّية، وقد برز ذلك منذ السنة الأولى للثورة السورية، وتحديداً مع بدايات اعتماد النظام السوري على الخيار العسكري والأمني في مواجهة الشعب السوري المنتفض، تساوقاً مع مسار الربيع العربي، وكذلك التجييش الطائفي اليومي الذي حاول النظام السوري أن يقسم عبره المجتمع السوري شاقولياً، ويثير النعرات الطائفية وإعادة انتشاش بذورها من جديد، وصولاً إلى خطف الطائفة العلوية في معظمها لتندرج وراءه تشبيحاً ومساهمةً في المقتلة المستمرة، على أساس فكرة كان يروج لها مفادها: أن الخطر يتهدد الطائفة العلوية من فئة أخرى ألصق بها التهمة الطائفية عسفاً وقسراً. وهي التي كانت تنادي بالحرية والكرامة، والخلاص من الحكم الشمولي الاستبدادي المتسلط على رقاب البلاد والعباد، منذ صبيحة 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 وحتى يومنا هذا.
من هنا فقد أضحت الوطنية السورية المنشودة ذات البناء المستمر وطويل الأمد في خطر حقيقي، ويتهددها الكثير من المتغيرات والأفعال، وهو ما اشتغل عليه النظام الأسدي مراراً وتكراراً، والوطنية السورية متمفصلة كلية مع مسألة السلم الأهلي ولا انفصام بينهما، فهذه تؤدي لتلك، وعندما يستشعر السكان في سورية بفقدان المواطنة بشكل كامل، وعندما يعيشون ظروف القهر والتمييز الطائفي، فإن الوطنية السورية التي ينتمون إليها تبقى في حالة من الاهتزاز، والكثير الكثير من إمكانية الاختلال في النسق المجتمعي المُؤسِّس لها.
وإذا كانت الوطنية السورية ملاذاً وخلاصاً أكيداً لحالة الانقسام الناتجة عن القمع واستمرار المقتلة الأسدية المندرجة في سياق دعم مشروع فارسي طائفي للمنطقة برُمَّتها، فإن إعادة الاعتبار للمسألة الوطنية السورية، عَبْر إعادة صياغة وبناء عقد اجتماعي جديد، ومتين يُنجز اندماجاً وطنياً حقيقياً ويؤسس لمرحلة ما بعد الاستبداد الطغياني، باتت هي الأخرى ضرورة أكيدة ولازمة كشرط أساسي لإعادة بناء السور الوطني عالي الأفق والمداميك المتينة له، وهو ما يحفز البنية المجتمعية السورية إلى التضاد مع كل المشاريع التقسيمية والانقسامية برُمَّتها سواءً كانت خارجية أو داخلية.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه يصح القول كثيراً إن البناء الشمولي التسلّطيّ الذي حكم سورية كان قد أدى دوراً حاسماً في تعويق الاندماج الوطني للناس بشكل عامّ، ومنع الوصول إلى هُوِيّة وطنيّة جامعة ومنع إعادة إنتاجها من جديد. ولم يعد مستغرباً أن تفعل الحرب فعلها، وتدفع بكل التشققات والانقسامات الشاقولية في المجتمع السوري، إلى أن تطفو على السطح المُشرع على كل الاحتمالات وكل المتغيرات.
التركيبة السكانية السورية
يتكوَّن المجتمع السوري كما تتشكل بِنْيته الديمغرافية ومنذ زمن طويل من أنساق وتلاوين للبنية المجتمعية، ساهمت وتساهم دائماً في إعادة صياغة حياة الناس على أساس وجود هذا التشكل الفسيفسائي المندمج والمتجانس بحق. فعلى المستوى الديني، شكَّل المسلمون بتعدُّدهم الطائفي أكثرية كبرى من السكان بنسبة تتجاوز 85%، من مجمل عدد السكان في كل الجغرافيا السورية التي تبلغ 185 ألف كيلو متر مربع، وهؤلاء ينقسمون إلى: أهل السُّنَّة والجماعة الذين يشكِّلون الأكثرية، بالإضافة لطوائف أخرى علويّة وشيعيّة اثني عشرية وإسماعيليّة أيضاً، يضاف إلى ذلك، الطوائف المسيحية بمجملها التي تُشكِّل حوالَيْ 10% من التعداد العامّ للسكان، حيث تشتمل على أغلبية من الروم الأرثوذكس، بالإضافة إلى طوائف الكاثوليك والبروتستانت، والموارنة وآخرين. ضِمن هذه السياقات المجتمعية فإن الوطنية السورية التي باتت منجدلة في معيار الحياة أو الموت للإنسان السوري، تفترض وعياً حقيقياً وواقعياً يؤسس للعَقْد الاجتماعي المنشود، ويعيد بناءات الوطن على أسس جديدة تكون في حالة قطيعة كلية مع الطائفية، والشوفينية القومية، لكن عَبْر وعي أقوامي منفتح على الآخر، هذه الوطنية المبتغاة تكون مندمجة في النَّسَق الوطني المجتمعي لكل السوريين بلا استثناء، مستوعبة لكل الطوائف ولكل الاثنيات في امتداد الجغرافيا السورية.
علاوة على أهمية ربط الوطنية السورية في امتداد تواجُد السوريين في المنافي والساحات العالمية حيث تشير بعض الدراسات إلى وجود حوالَيْ عشرين مليون نسمة من أصل سوري في دول العالم وعلى الأخص في الأميركتين وأوروبا وأستراليا.
ولأن التغييرات الديموغرافية التي جرت مؤخراً مع استمرار وجود التهجير القسري للسوريين نحو الخارج، جاءت في النهاية لصالح النظام، ولأن انخفاض أعداد العرب السُّنَّة يزيد النسب المئوية لتمثيل الأقليات، باستثناء المسيحيين وربما الشركس، مما يعزز وضع النظام السوري، ويساهم بسهولة في تغيير ديموغرافي (متجانس) على قدّ ومقاس (التجانس الأسدي) المتخارج مع الوطنية الحقة، وحيث جاء كل ذلك وَفْق ما كان يُبنى على إستراتيجية طائفية أسدية استفادت من الحرب التي أقاموها على أنقاض الثورة السورية، حيث حاولوا شيطنتها طائفياً وإرهابياً، بالإضافة إلى ما عملت عليه دولة الملالي الإيرانية -حسب باحثين- نحو إنتاج "وكلاء" شيعة من دول المنطقة ومن أفغانستان وباكستان لزيادة عدد المقاتلين، وأيضاً لتغيير التركيبة الديموغرافية في مناطق معينة، عَبْر منحهم إمكانية البقاء في سورية؛ وبذلك يعيد النظام تصميم وتوزيع السكان بما يضمن له وجود مؤيدين للسلطة، أو من يُعتمد عليهم في مناطق رئيسية في سورية. الحقيقة البائنة تقول: إن الطائفية كانت متأصلة في نظام الدولة الأمنية منذ زمن حافظ الأسد، حيث أخذ طائفته العلوية عند استيلائه على الرئاسة رهينة وربطها بسلطته وأجهزته الأمنية، وفعل الشيء نفسه مع الأقليات الأخرى، مذكراً إياها بانخفاض وزنها الديموغرافي مقارنة بالأغلبية السنية، وإذ يتابع بشار الأسد اليوم إستراتيجيات والده، بالاعتماد على البعض من برجوازية سُنية في كل من حلب ودمشق وبعض المدن الكبرى، دون إهمال طائفته من السكان السوريين، حيث شكلت حضوراً قوياً في جهاز الدولة ومليشيات الشبيحة، خاصة بعد الثورة السورية واشتغاله على تطييف المجتمع السوري برمته.
فإن ضرورة إعادة إنتاج الوطنية السورية المتجددة أصبح ضرورةً وشرطاً لازماً من أجل إعادة بناء الوطن السوري برُمَّته تأسيساً على عقد اجتماعي عصري حديث يستوعب الجميع، ويمنع إعادة قيام دولة الاستبداد الطغياني مرة أخرى.