إن الصراع في أحد أهم أبعاده مع النظام السوري هو صراع سرديات، ويأتي على رأس هذه السرديات "سردية الأزمة والحل في سوريا"، وهذا ما خاضه شباب الثورة وإعلامها مع إعلام النظام وخطابه منذ بداية الثورة السورية حينما حاول النظام أن يختلق سردية خاصة به يخالف بها كل سرديات العالم، ليقول لنا أن الأزمة في سوريا ما هي إلا أزمة وجود عصابات سلفية إجرامية مسلحة تريد زعزعة الدولة لتبني لها إمارة إسلامية مدعومة من السلفيين والإخوان ولا وجود لأي مظاهرات احتجاجية في البلاد، وما الصور التي تعرض عن المظاهرات إلا محض فبركة واختلاق من تزوير قناة الجزيرة القطرية وقناة العربية.
لم يلتفت النظام حينها إلى منطقية روايته من عدمه، فهي على كل حال الرواية التي تناسبه لحماية ذاته من الثورة الغاضبة، وعليها مضى النظام بحلوله الأمنية وأدخل الجيش والأمن لطحن هذه الثورة وقمع الشعب السوري الأعزل، وهكذا استمر في دوامة هذه السردية التي دامت عشر سنوات، واستقدم بناء على هذه السردية الميليشيات الطائفية الإيرانية واستنجد بالجيش الروسي لمحاربة هذا الإرهاب المفترض.
واليوم وبعد عشر سنوات من صراع النظام مع الشعب السوري، وتفجير العديد من الأزمات التي ترافقت مع تلك الحرب المجنونة وفي الوقت الذي باتت فيه سوريا تعاني من أزمة اقتصادية خانقة مع انعدام المواد الأساسية من الأسواق وانتشار طوابير الخبز والمازوت والغاز ووقوع البلاد تحت سيطرة خمس جيوش أجنبية، يعود النظام السوري مع دولة ونظام فاشل، من جديد لاختلاق سردية جديدة حول "الأزمة والحل" حيث أقامت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل وتساندها وزارة الأوقاف "المؤسسة الدينية التابعة للنظام" مع وزارة الإدارة المحلية فعاليات حوارية ضمن ما يسمى "الحملة الوطنية لأيام الأسرة السورية".
وتهدف الحملة بحسب ما أعلن القائمون عليها إلى تعزيز الوعي الفردي والجماعي بالمكانة المحورية للأسرة كأساس لبنيان المجتمع وتعافيه وتعزيز الروابط الأسرية واستنهاض دور الأسرة السورية في صون الهوية الوطنية الجامعة والانتماء الوطني وتعزيز المواطنة والقيم الأخلاقية، والسلوكيات الإيجابية والتماسك والتلاحم الاجتماعي، والتنمية بكل مجالاتها وأبعادها.
وقال وزير الأوقاف محمد عبد الستار السيد في هذه الجلسة الحوارية أن تحسين الأسرة سيكون وفق منهج الرئيس بشار الأسد كما حدده في كلمة ألقاها في جامع العثمان في مواجهة الليبرالية الحديثة وتفكيك الأسر من الداخل وإعادة القيم الأخلاقية للأسرة.
واعتبر أن هناك خطر يتهدد الأسرة من وسائل التواصل الاجتماعي "فيسبوك "، مفصحاً عن العقدة التي يعانيها النظام من وسائل التواصل الاجتماعي، مصدر السردية الأخرى التي تكذب سردية النظام وتدحض روايته المتخيلة، وتقنع الشعب بروايتها بناء على ما تستند إليه من الحقائق الدامغة المعززة بالصورة المرئية حول أسباب الأزمة والحل.
ولسائل أن يقول كيف تفطنت وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل ووزارة الأوقاف إلى وجود أزمة أخلاقية التي تتعرض لها الأسرة ولم تعر اهتمامها للجريمة الأخلاقية الكبرى التي يمارسها النظام السوري منذ عشر سنوات ضد الإنسان السوري الأعزل بحرب إبادة شاملة وعملية تهجير ممنهج لنصف الشعب وتدمير كامل لمدن وحواضر سورية، وإفقار المواطن وتبديد الثروة الوطنية وبيع ثروات البلاد واستقدام الجيوش الأجنبية إلى الوطن.
أي حديث عن الأخلاق بعد تمزيق النظام السوري للنسيج الاجتماعي السوري وتغذية مشاعر الطائفية والانتقام، كيف يدفع النظام السوري اليوم بمؤسسة الأوقاف ووزرة الشؤون الاجتماعية والعمل لقيادة حملة تربوية لرعاية الأخلاق الاجتماعية والحفاظ على الأسرة من خطر الليبرالية ووسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الذي يطيح هذه النظام بملايين الأطفال والشباب والأسر السورية في دول الاغتراب، يركبون البحر ويعبرون الحدود أمام خطر الموت ليصلوا إلى تلك البلاد التي تحمل قيم الليبرالية لا لشيء إلا للهروب من آلة الموت التي استلها النظام ضد هذا الشعب.
ماذا يريد النظام من هذه الحملة التربوية والدعوة الأخلاقية التي تقودها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي من المفترض بها أن تتحمل مسؤولياتها في للبحث عن مشكلة البطالة والفقر التي يعاني منها المواطن بعد وصل الدولار إلى أكثر من 3400 ل. س.
يبدو أن النظام السوري ومنذ لقاء رئيسه بالمشايخ والدعاة قبل ثلاثة شهور في جامع العثمان والتي أعاد فيها تشخيص الأزمة السورية على أنها "أزمة فكرية تجتاح الأسرة والعقائد ورموز المجتمع والبنية الاجتماعية والدين بشكل أساسي"، واعتبر أن هذه الأزمة عميقة وتنعكس على كل الأوضاع الأخرى بما في ذلك الأوضاع الاقتصادية.
كان يهدف من كل ذلك إلى خلق معركة مشاغلة وإلهاء لحاضنته عن سوء الأوضاع المعيشية وحالة الجوع والفقر المتفشية في مناطق سيطرة النظام، خصوصاً بعد تصاعد النبرة الاحتجاجية ضد الأوضاع الاقتصادية المتردية من قبل العديد من الشخصيات التي كانت محسوبة فيما سبق على النظام وباتت تشير بشكل مباشر إلى مسؤولية النظام ورئيسه بالتحديد.
لذلك وبعد انعدام الحلول من يد النظام لجأ إلى تشخيص الأزمة السورية على أنها أزمة أخلاقية يتحمل مسؤوليتها المجتمع، وعلاجها إنما يكون بالوعظ والتربية التي هي مهمة أولياء الأسر بالدرجة الأولى وليس مهمة النظام المشغول بالدفاع عن الوطن.
يريد النظام أن يعيش المجتمع حالة من النكران وتكذيب الرواية الأصلية للأزمة السورية التي تقول إن المشكلة هي مشكلة سياسية بالدرجة الأولى تتحمل مسؤوليتها السلطة، السلطة الشمولية الفاسدة التي ردت على كل دعوات الإصلاح بالحديد والسلاح والنار.
يبدو أن النظام السوري قد استنفذ كل الحلول المقنعة التي يمكن أن تحقق الانفراج في معيشة الشعب السوري، وفقد زمام الحلول تماماً لذلك يعود إلى الخطاب الديني ومواعظ التربية والأخلاق لتوظيف الخطاب الديني مرة أخرى كأفيون ومخدر لوعي الشعب السوري عن الأزمة الحقيقة بالتعاون مع المؤسسة الأوقاف التي لا تمانع أبداً من لعب هذا الدور لخلق سردية أخرى حول الأزمة والحل وهو ما قد يدخل البلاد في عقد جيد من الدمار والخراب كما دخلتها قبل عشر سنوات حينما رفض النظام السوري الاعتراف بمسببات الثورة الحقيقة لينقذ نفسه من السقوط وتراه اليوم يعاود نفس السياسة في النكران ورفض الاعتراف بالفشل.