بقرار قد يبدو غريباً، وجاء على عكس المجريات، والتحضيرات، والاستعدادات لمعركةٍ لطالما صرحت ونادت بها تركيا، فمنذ أيام قليلة تركيا وعلى لسان الرئيس أردوغان أكدت أن جميع الاستعدادات قد اتخذتْ لدعم المنطقة الآمنة في الشمال السوري، وحددت عمق المنطقة أنها ستكون لعمق 30 كم داخل حدودها الجنوبية مع سورية. فبعد التحضير هذا والتحشدات التي امتدت لأيام أجّلت القوات التركية عمليتها العسكرية التي كانت تزمع القيام بها في الشمال السوري أجّلتها إلى أمد غير معروف، وغير معلن، فقد أبلغت كافة التشكيلات العسكرية التي اتخذت وضع النفير العام للمعركة أبلغتهم بهذا القرار وذلك بإعلان مصدر عسكري أن القيادة التركية أبلغتهم ذلك باجتماع عُقد في مدينة كلس التركية يوم أمس.
قرار تأجيل المعركة جاء بعد يومين من اجتماع مجلس الأمن القومي التركي برئاسة أردوغان، الاجتماع كان من المفترض أن يُتّخذَ فيه جملة من القرارات يأتي على رأسها إعطاء المجلس الضوء الأخضر للقوات المسلحة التركية لبدء العملية العسكرية في الشمال السوري. الرئيس أردوغان قال قبيل يومين من تصريحه بأن الاستعدادات اكتملت للبدء بعملية عسكرية وأنه بانتظار نتائج اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، بيدَ أن ما رشح من تسريبات فيما يخص موافقة المجلس على العملية العسكرية لم يصل لمرتبة الحزم وإعطاء القرار الواضح والصريح حول بدء العملية العسكرية، أو إعطاء القرار بتأجيله، تاركاً الأمر للقيادة السياسية لدراسة المعطيات الجديدة الإقليمية والدولية وردود أفعال اللاعبين الإقليميين والدوليين حول العملية.
أطراف عديدة ولا سيما موسكو وواشنطن، والأمم المتحدة، ربما لم يوافقوا وأبدوا تحفظاتهم على العملية ما جعل أنقرة تتريث وربما كان هو السبب المباشر للإعلان عن تأجيل البدء بالعملية العسكرية في الشمال السوري. الأطراف في امتناعها عن دعم العملية العسكرية كلّ له أسبابه التي يراها لمنع وقوع العملية، فواشنطن حذرت أنقرة من مغبة القيام بالعملية العسكرية والعواقب من حدوثها متمثلة كما تدّعي أنها ستقوّض الاستقرار في المنطقة، في منطقةٍ كما تقول واشنطن يتواجد فيها جنود أمريكيون.
الأمم المتحدة وتأييداً لما ذهبت إليه واشنطن أعربت أن سورية بحاجة لتسويات سياسية، ومساعدات إنسانية وليس لعمليات عسكرية. من جانبها تركيا ورداً على التصريحات الأمريكية وموقف موسكو رأت أن موسكو وواشنطن لم تلتزما حسب- الاتفافيات السابقة- بإبعاد الميليشيات الكردية ووحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني عن حدودها الجنوبية الأمر الذي جعل من واجبها -حسب أنقرة- أن تقوم منفردة بما يجب عليها القيام به.
فبعد أن قامت تركيا باتخاذ كافة الاستعدادات للبدء بالعملية العسكرية وقامت بهدم جزء من الجدار الحدودي الفاصل بين سورية وتركيا وذلك لدخول العدد والعديد من قواتها إلى سورية ولكنها وبعد هذه التصريحات الأمريكية رأت أي- تركيا- أن تتريث لدراسة ردود أفعال الدول المؤثرة والفاعلة في الملف السوري وقد رأت بأن مواقف موسكو وواشنطن لا تساعدها في البدء بعمليةٍ كهذه والتي لا بد فيها من توافق جميع الأطراف المؤثرة والفاعلة والمتواجدين في شمال سورية، فتعقيدات المشهد الجيوسياسي وخاصة موقف تركيا من الحرب الروسية الأوكرانية وتزويد أوكرانيا بطائرات البيرقدار التي أحدثت فرقاً واضحاً في الحرب الروسية الأوكرانية، وكذلك إغلاق التجارة البحرية في البحر الأسود، ومنع أنقرة للطائرات الروسية من استخدام المجال الجوي التركي للطائرات الروسية العسكرية من عبور أجوائها إلى سورية أو من سورية إلى موسكو عوامل وأسباب ربما كان لها تأثير على عدم خلق مناخ إيجابي لما كانت تريده أنقرة من تأييد موسكو لعمليتها العسكرية، هذا من جانب الموقف الروسي، أما على الجانب الأمريكي فقد رأت واشنطن أن موقف تركيا الرافض لتوسيع حلف شمال الأطلسي” الناتو” ورفضها لدخول كل من استوكهولم وهيلسينكي للحلف والذي ترى أنقرة أن هاتين العاصمتين لهما مواقف داعمة للإرهاب وخاصة لحزب العمال الكردستاني ولفتح الله غول الذي تتهمه أنقرة بأنه الرأس المدبر للمحاولة الانقلابية الفاشلة التي جرت في صيف عام ٢٠١٦.
بالأمس وبموازاة ذلك وعلى خلفية ردود أفعال واشنطن على العملية العسكرية التي أعدت لها أنقرة في الشمال السوري وتكريسها للمنطقة العازلة التي تحاول إنشاءها فقد بدد الرئيس التركي أردوغان بشكل كلي وتام آمال كل من هيلسينكي واستوكهولم في الانضمام للناتو، وذلك على خلفية الموقف الأمريكي من العملية والتي حذرت أنقرة من مغبة القيام بها لما لها من تأثير على استقرار المنطقة كما تزعم واشنطن وكما سبق بيانه.
بدا واضحاً أن ثمة تعقيدات جيوسياسية حالت حتى اللحظة من بدء العملية العسكرية في الشمال السوري وتشابك وتعقيد ملفات دولية شائكة ارتبط بعضها ببعض، وجعلت من بدء المعركة العسكرية بحاجة لتوافقات ومباحثات إضافية لإعطاء أنقرة الضوء الأخضر ببدء عمليتها العسكرية.
حاجة تركيا للمنطقة الآمنة كبيرة جداً إن على صعيد الأمن القومي التركي متمثلاً بطرد الميليشيات الانفصالية عن حدودها الجنوبية إلى المسافة التي تراها بأنها تخدم هذه المصلحة يضاف إليها حاجتها لخفض صوت المعارضة التركية التي ما فتئت بين الفينة والأخرى تطالب بضرورة إعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. فتوسيع المنطقة الآمنة يصب في هذا الاتجاه الأمر الذي يمكن اللاجئين السوريين من العودة إلى مدنهم وقراهم التي يرى قسم كبير من اللاجئين أن المساكن التي بنتها تركيا في الشمال السوري لا تلبي الحد الأدنى من طموحاتهم فهم يأملون بالعودة إلى مناطقهم وقراهم وليس استبدال وضعهم كمهاجرين ولاجئين في تركيا أو سواها إلى نازحين داخل وطنهم، ولا شك أن حاجة تركيا كذلك في هذه الأوقات لإقامة المنطقة الآمنة ستساعد الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية لكسب نقاط إضافية لتعزيز موقعه لدى الرأي العام التركي، وستجعل حزب العدالة والتنمية في موقف جيد انتخابياً ونحن نقترب من الدخول في سنة الاستحقاق الرئاسي والبرلماني في تركيا.
اعتبارات كثيرة وأسباب جمة تجعل من المنطقة الآمنة التي تريدها أنقرة حاجة ملحة جداً ما يدلل على هذا الاتصال الذي جرى اليوم بين أردوغان والرئيس الروسي بوتين والذي أبلغ فيها الأول الأخير أن المنطقة الآمنة في الشمال السوري باتت أمراً ملحاً وضرورياً.
فأنقرة اليوم أمام خيارين إما أن تكون المنطقة الآمنة التي تريد إقامتها هي فعلاً آمنة ومطمئِنة لها وفق رؤيتها، وإما أنها ستكون على غير ذلك ما يجعلها منطقة غير آمنة تُلدغ منها كلما أراد أعداؤها أن يلدغوها من خلالها؟ بطبيعة الحال ولما ذُكرَ من أسباب يقودنا هذا السؤال لسؤال آخر وهو: هل القرار التركي بوقف العملية العسكرية في الشمال هو قرار قابل للاستئناف أم أنه قرار نهائي وقطعي غير قابل لأي طريق من طرق الطعن به؟