لا تُفاوِضْ وأنت ضعيف، هذه قاعدة مشهورة عَبْر التاريخ، فالذي يفاوض وهو لا يملك أوراق قوة، إنما يُضطر إلى تقديم تنازُلات كبيرة، تضيّع الحقوق والحقيقة.
أوراق القوة ليست الحق فحسب، بل الحق وكيفية إدارة المعارك والمحافظة عليه، وهذه تحتاج بالضرورة إلى ميزان قوى ذاتي وموضوعي يخدم القضية والحق.
فهل قُوى الثورة والمعارضة السورية التي تعتبر نفسها ممثلةً للشعب السوري بقواه وبناه المختلفة، قادرة على خلق هذا الميزان؟ أم أن هذا الميزان يتعلّق بظروف خارجية، تحدّدها شروط التنافر والتوافُق بين الدول المنخرطة بالصراع السوري؟.
إن الواقع الملموس الذي يعبّر ائتلاف قوى الثورة والمعارضة عن جوهره- يقول هذا الواقع: إن مؤسسة الائتلاف هي محصلة توافُقات دولية، وُلدت بظروف لم تملك زمامها قوى الثورة السورية، وفئات المعارضة، التي تَشكّل أغلبها على عجلٍ لملء الفراغ السياسي، كما يريده مَن أطلقوا على أنفسهم (مجموعة أصدقاء سورية).
وَفْق هذه الرؤية، ذهب وفد “قوى الثورة والمعارضة” إلى جنيف، للانخراط بجولات مفاوضات اللجنة الدستورية، وقد انعقدت ست جولات من قبل دون حدوث أي تطوُّر على صعيد التوافق على كتابة دستور سوري جديد.
ذهب وفد المعارضة إلى مفاوضات الجولة السابعة، دون قوة حقيقية يملكها على أرض الواقع، ودون الأخذ بالاعتبار، أن الجولات الست السابقة، التي عُقدت على مدى عامين، لم تُحقِّق أي تقدُّم يُذكر على صعيد مهمة ووظيفة هذه اللجنة.
ورغم دعوات كثيرة، أطلقتها قوى الثورة المختلفة، وتيارات المعارضة السياسية، بضرورة أن يتحصّن ائتلاف قوى الثورة، ومعه هيئة المفاوضات السورية، وفريق المعارضة في اللجنة الدستورية، بالحاضنة الشعبية للثورة، وتوسيع إطار التمثيل في هذه المؤسسات، ليكون تعبيراً حيّاً عن قوى ومكونات الشعب السوري، بقيت هذه المؤسسات رهينة إرادة أجندات القوى الإقليمية والدولية، دون القدرة على الاحتفاظ باستقلالية قرارها الوطني. وهذا تمّت تَعْرِيَته بمواقفها الضعيفة، غير المُحْتَمِيَة بإرادة السوريين الحرّة.
إن عدم وجود ضمانات بجدولة التفاوض زمنياً، وعدم تزامُن التفاوض حول السلال الأربع، يؤشران جدّياً إلى عدم جذرية مواقف هيئة المفاوضات من عملية التفاوض، هذه الهيئة، تبحث عن أي فرصةٍ، تديم وجودها في مناصبها، حتى لو أدى الأمر إلى تقديم تنازُلات جوهرية على صعيد بِنية الحكم الانتقالي، إذ تسرّب أن وفد الهيئة لا يمانع في المشاركة بحكومة مع النظام الأسدي بوجود رأس النظام بذاته في هذه الحكومة.
إن مقترح بيدرسون “خُطوة مقابل خُطوة” هو مقترح انتهاك لجوهر القرار 2254، والذي قسّمه سلفه ديمستورا إلى ما أسماه السلال الأربع.
فكيف يقبل وفد قوى الثورة والمعارضة الذهاب إلى الجولة السابعة بعد إعلانهم ببيان رسمي رفضهم لمقترح بيدرسون المشؤوم، وإصرارهم على التفاوض على القرار المذكور رزمة واحدة؟
فما الذي استجدّ لدى هيئة المفاوضات المعارضة ووفدها الدستوري؟ لتضرب بموقفها السابق عُرض الحائط، والذي عبّرت عنه في أكثر من تصريح لقادة المعارضة؟
وما الذي دفع رئيس المكتب الإعلامي لهيئة المفاوضات؟ إلى رفض الالتحاق بالجولة السابعة المنعقدة حالياً؟
هذه الأسئلة مشروعة، فالأمر لا يخصّ مجموعة من المفاوضين باسم قوى الثورة والمعارضة، يقودهم رئيس فريقهم هادي البحرة، ليقرروا الذهاب أو عدم الذهاب إلى جولة جديدة في جنيف للتفاوض على اللاشيء، سيما وأن النظام الأسدي وطيلة جولات ست سابقةً، لم يقدّم أي تنازُل بشأن كتابة دستور جديد لسورية، تعتقد الأمم المتحدة أن إنجازه عَبْر جنيف، سيفتح باب التغيير في سورية، والجنوح إلى السلام.
إن عدم التحاق الدكتور يحيى العريضي بجلسات الجولة السابعة في جنيف، يكشف عن أمور عديدة، تحتاج إلى التوقف عندها، وتسليط الضوء على دوافعها، والتي على ما يبدو، أن العريضي لا يريد حضور جلسات جولة مفاوضات جديدة، لا تزال مجرياتها تدور في فراغ أحدثه وفد نظام الأسد، فعلى ما يبدو، أن موقف العريضي أتى على قاعدة لحس هيئة المفاوضات لرفضها مبادرة خُطوة مقابل خُطوة، ودون أي أُفق حقيقي للتوصل إلى تنفيذ القرار 2254.
إن أسئلة مشروعة تُطرح على العلن، وهيئة المفاوضات معنية ومسؤولة عن الإجابة عليها.
أول هذه الأسئلة، هل حقق وفد قُوى الثورة المعارضة اختراقاً حقيقياً حيال آليات التفاوض برعاية الأمم المتحدة؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هو هذا الاختراق، وما تفصيلاته؟ وما هي الضمانات الدولية التي تمّ تقديمها لهيئة المفاوضات، التي يقودها أنس العبدة، والتي تشكّل مرجعية لفريق وفد التفاوض المعارض، الذي يقوده هادي البحرة، لتعود عن بيانها الرافض لمبادرة بيدرسون “خُطوة مقابل خُطوة؟”
وثاني هذه الأسئلة هو:
أليس هذا التفاوض هو تفاوضاً عبثياً؟ يعني أن هذا الوفد لا يفاوض وَفْق القرار 2254 وجوهرِهِ وسلالِهِ، بل يفاوض عَبْر رؤيته لحلٍّ سياسي، يأتي أقل من متطلبات القرار الدولي، الذي انعقدت مفاوضات جنيف على قاعدته وجوهره، وهذا يتطلب من القاعدة الشعبية والسياسية للثورة السورية رفض آليات تفكير وطرق عمل هيئة المفاوضات بصيغتها وبنيتها الحالية.
إن قيادة تفاوُض عبثي، كالذي حدث في كل جولات التفاوض السابقة مع النظام الأسدي وبرعاية الأمم المتحدة، إنما يكشف عن بِنية تفاوضية غير جذرية حيال مصالح الشعب السوري، الذي ثار وقدّم مئات آلاف الضحايا، من أجل الخلاص من نظام الاستبداد والقهر الأسدي.
إن المراهنة على ظروف دولية كالحرب الروسية على أوكرانيا، هي مراهنة خاطئة إذا كانت تعتمد على تخيُّل، أن الروس سيقدمون تنازُلات في الملفّ السوري، لصالح حربهم في أوكرانيا.
هذه الرؤية، التي ترى أن الروس سينشغلون ببوابتهم الغربية، التي تشكّل تهديداً وجودياً لنظام بوتين القومي المتشدد، هي رؤية خاطئة، فالروس يدركون أنهم معنيون بالتفاوض مع الغرب لاحقاً، وَفْق مسار حربهم في أوكرانيا، هذا التفاوض سيشمل كل بؤر صراعهم وضرورة تسويتها مع الغرب رزمة واحدة.
إن انسحاب الدكتور العريضي من الالتحاق بوفد المعارضة، وكان سبقه انسحاب الدكتور إبراهيم الجباوي، إنما يؤشر إلى عجز هيئة التفاوض من قيادة المفاوضات في ظل ميزان قوى خاسر.
الشعب السوري بكل أطيافه الثورية والسياسية معنيّ برفع صوته، وإحداث التغيير المطلوب والعميق في البِنْية السياسية الحالية، وصولاً إلى بِنْية سياسية ثورية تحافظ على مطالب الثورة السورية، التي ضحّى مئات آلاف السوريين بحياتهم وممتلكاتهم من أجل بناء دولة القانون والمواطنة والديمقراطية، ومن أجل الخلاص من نظام الاستبداد الأسدي.
التغيير المطلوب يعني عَقْد مؤتمر وطني جامع للسوريين، باعتباره برلماناً مؤقتاً، فهل يفهم مَن يلزم رسالة السوريين، أم أنهم سيقولون لنا: إنهم تمّ انتقاؤهم دولياً، وبالتالي ليسوا في وارد أي تغيير!.