يقول المخرج السويدي إنغمار برغمان (1918-2007): "بالنسبة لي، أهم ما في السينما هو وجه الإنسان"، فما هو الوجه الإنسانيّ الذي نود أن نراه على الشاشة الفضية؟ وما هو الوجه الذي يرغب صانعو الأفلام عرضه لنا؟
منذ عدة سنوات (ربما خمس سنوات أكثر أو أقل قليلًا)، يكاد وجه الإنسان المُقدَّم في الأفلام السينمائية، ينحسر في زاوية ضيقة، أرادته جهات بعينها، وجهاً مشوّهاً غير سويٍّ، يعاني الرجل فيه، كما تعاني المرأة، من انحراف الطبائع التي خُلقنا عليها، ولا طبيعية الغرائز، والانجراف المفرِط نحو غيرِ المتّفق عليه، المستهتر بالشِرعة البشرية، الخارج على الناموس الكونيّ السرمديّ.
المثلية، على سبيل المثال، واحدة من أكثر وجهات هذه الأجندات الساعية إلى تغيير الوجه الطبيعي المفهوم والمقبول والممكن للإنسان كما هو، وكما نحن، وكما كل منطق وتاريخ ودين وقيم جمال وأخلاق، وصعود نحو الأفضل والأولى والأجدر والأبقى. نحو ما ينفع الأرض، ويواصل عمارتها، ويحافظ على مبرّرات وجودها.
حق الحرية..
يحاول مَن فرضوا مثليّاً أو مثلية في كل فيلم، تقريباً، يُنتج هذه الأيام، باستماتة، تمرير فكرة مفادها أن "لكل فرد الحق في الحياة بالشكل الذي يُفضله لذاته، وأيضاً بالميول الجنسية التي يرغب بها سواء كانت هذه الميول ناشئة عن مرض، أو عرض نفسي، أو شيء آخر، فلكل فرد الحق في حريته الشخصية ما دام لم يتعدَّ على حرية الآخرين". ولا الضالين آمين، لا بأس، كلام جميل، كلام معقول، (مأدرش أقول حاجة عنه). ولكنهم نسوا، أو تناسوا، أن القصة في وادٍ وكلامهم هذا في وادٍ آخر، فحين يعترض معترض على هذا التسابق المسعور نحو فرض قضية المثلية في الأفلام السينمائية، فلأن الأفلام السينمائية، خصوصًا بعد منصات العرض الرقمية، ودخول السينما بأفلامها، كل أفلامها، كل بيت، لم يعد فرض المثلية يدخل هنا في باب الحرية الشخصية، بل في باب (تبليعنا) جميعنا و(تبليع) أطفالنا وأجيالنا الناشئة، مختلف لا سوية هذا الأمر، ومختلف تداعيات هذه اللا سوية، حتى لو كانت لا سوية هرمونية، أين عدم المساس بحرية الآخرين هنا؟ هل سيقولون يا أخي لا تشاهد فيلمًا يتناول المثلية، وكفى الله المؤمنين القتال، وهو المطب الوعر الذي يوقعون أنفسهم به.
فإن كان الحل هو عدم حضوري فيلماً لا يتناسب مع منظومتي ومنظومة أسرتي القيمية والأخلاقية، وفي أحايين كثيرة المعتقدية، فمن واجبي إن كنت إعلاميّاً أو سياسيّاً أو ناشطاً حقوقيّاً أو شخصية عامة، أن أحض غيري على، وأدفعهم إلى، وأقنعهم بـ "عدم حضور أفلام كهذه"، وصولًا، إن استطعت إلى ذلك سبيلاً، إلى تعميم المقاطعة، وتكريس تحييد هذه الأفلام وتركها تدور في دائرة مغلقة مشبوهة من أبطال النيوليبرالية المتوحشة، والعلمانية الملفقة بمقاسات (إكس.. إكس.. إكس لارج)، ليرتديها أشخاص مقاساتهم (إكس.. إكس.. إكس سمول)، والعكس صحيح.
فأي حرية شخصية تلك التي تُعرض على الملأ، وتتحوّل إلى ذبابِ نشرِ رأيٍ عام يتعارض مع طبيعة الأشياء؟ لنفترض أن في إنكلترا، على سبيل المثال، 100 ألف شاذ (يمنعوننا من استخدام كلمة شاذ ويريدوننا أن نستخدم فقط الكلمة التي يريدونها)، فهل ننشغل بهم وننسى الـ 68 مليوناً الباقين، علمًا أن نسبة غير السويين لا تتعدى هنا واحداً ونصفاً بالألف من مجموع السكّان، أي ما هو أقل بكثير.. بكثير من واحد بالمائة. وحتى لو وصلت النسبة، في أي بلد كان، إلى واحد، أو حتى اثنين، بالمائة، فلا يعقل أن يصبح هؤلاء بنسبتهم الضحلة تلك، هم الموضوع، وهم الفكرة السائدة، وهم الشغل الشاغل، والأجندة المتوحشة التي تهدد كل من تسوّل له نفسه نقدها، أو التعبير عن رفضه فرضها، أو قراءة ما وراء كل ذلك.
"أصحاب ولا أعزّ"..
ما استفزني كي أكتب عن المثلية في السينما، هو آخر فيلم (محروق) من أفلام الأجندات بنسخها العربية. أما الفيلم فهو "أصحاب ولا أعز" المأخوذ باستهتارٍ متوحشٍ عن الفيلم الإيطاليّ Perfect Strangers، والمنتج، للأسف الشديد، بتضافر جهود عربية اجتمعت من لبنان ومصر والأردن، لصناعة ما صنعوه. وما صنعوه هذه المرّة، بعد أن فشلوا بتمرير فيلم "أميرة"، وكنت أنا شخصياً في مقدمة مَن وقف له ولهم بالمرصاد، يسعى للإساءة إلى أبسط قيم المجتمع، أي مجتمع، وليس شرقيّه فقط، من مثل قيمة رفض الخيانة الزوجية التي يتفق حولها ابن النرويج والسويد والدنمارك مع ابن مخيم الوحدات مع ابن إثيوبيا مع ابن الواق واق. أو قيمة احترام الأم التي تشكل رمزاً أيقونيّاً مثل آيات السماء وضوء النهار وانبثاق البرعم من تراب الأرض. الفيلم يمس كل هذه الثوابت ولا يكتفي بل (يدحش) في السياق مثليّاً نسبته في الفيلم واحد إلى سبعة، كما لو أن كل سبعة أشخاص في بلادنا، بينهم، رغم أنوفنا جميعنا، مثليّ واحد على الأقل، لأن الفيلم جعل أحدهم مثليّاً وآخر جرى الشكّ حوله، وفق سردية الفيلم التي جمعت سبعة أصدقاء واحد منهم (سنغل) والباقون زوج وزوجة، على سهرة مراقبة خسوف للشمس في بيت أحدهم، لتكرّ مسبحة الفضائح واحدة تلحق أختها. ثم بعد كل هذه الفضائح والخيانات والتجاوزات على أبسط قيم الحياة القويمة السوية، المضاف إليها الاحتفاء بالمثليّ وجعله أكثر شخصيات الفيلم تصالُحاً مع الذات وقوة ومودة نحو الآخرين، يلعب المخرج اللبناني وسام سميرة لعبة مكشوفة إلى أبعد الحدود، عندما يحاول إيهامنا أن كل ما حدث في الفيلم لم يحدث، يريدنا أن نصدق مشهداً واحداً مدته دقيقة، وننسى فيلماً كاملاً مدته 99 دقيقة!
وسام سميرة الذي ظل حتى هذا الفيلم مخرج دعايات وكليبات، لن يمانع، حتماً، باغتنام فرصة كهذه، منحه إياها المنتج المصري محمد حفظي أحد منتجي فيلم "أميرة". ولكن السؤال المُوجِع: كيف تفعل نادين لبكي ذلك؟ وكيف تقبل منى زكي؟ وكيف ينجرف ابن الأردن وفلسطين الممثل إياد نصّار لمحتوى كهذا؟
شفرة السينما..
تقوم شفرة النظام الدلالي في فن السينما، أساساً، على الشكل، الأسلبة، القيمة البصرية، حتى أن المخرج الإيطالي فيديريكو فلّيني (1920-1993) يعرّف السينما أنها "الضوء" فقط بكلمة واحدة لا قبلها ولا بعدها، كما لو أنه يريد أن يقول لنا إن هذا التعريف هو خلاصة مسيرته السينمائية الممتدة على مساحة 38 عامًا. أما الفيلسوف البريطاني دانيال تشاندلر (1952) فيعرّف الشفرة السينمائية أنها "الأنظمة الإجرائية التي تتكوّن من مجموعة من الأعراف المترابطة التي تحدد العلاقات المتبادلة بين الدال والمدلول" (قاموس مصطلحات السيموطيقا، دانيال تشاندلر، ص 30)، في حين يكتفي الفيلسوف الفرنسي رولان بارت (1915-1980) بالقول إنها "القوى التي تضع المعنى".
أما الكاتب الأمريكي هارولد أوسبورن، فيرى أن المحتوى بدون الشكل، هو "استخلاصٌ لشيء لا وجود له"، وهو، تقريباً، ما يذهب إليه الأديب الروسي الشكلاني فيكتور بوريسوفيتش شكلوفسكي (1893-1984) بالتعامل مع المحتوى بوصفه مظهراً من مظاهر الشكل.
مما تقدم ينجلي أمامنا أن شفرة السينما الجوهرية تكمن في أبعادها البصرية الشكلية الساحرة. والمفارقة اللافتة هنا، أن أفلام أجندات المثلية فقدت بوصلة السينما، ونسيت كل ما تقدم، وكرّست جل جهدها خلال مراحل صناعة فيلم من هذه الأفلام المجنّدة، نحو ليّ عنق التلقي، وجرّه جرّاً نحو مثليّ الفيلم أو مثليته، فارضين علينا كثيرًا من ميكانيزمات التعاطف مع هذا (المُبتلى) بـ(عنف) مجتمعه، ومتواليات (التنمّر) عليه.
تحاول السينما منذ نشوئها بوصفها الفن السابع الجامع لباقي الفنون الإنسانية، تمثيل الواقع عبر الحركة، فهل تعذّر عليهم خلق محاكاة لواقع غير هذا الواقع؟ وأي قيمة جمالية مضافة أن نُجْلَد بفيلم يريدنا أن نقبل ما لا يُقبل، وأن نفتح أبواب بيوتنا على كل مصاريع مآلات وجود هؤلاء المثليين في غرف جلوسنا (معيشتنا)، أو نومنا، رغماً عنّا؟ ثم يعيدون النغمة النشاز في هذه الحالة، حول الحريات الشخصية والحقوق المدنية، وقد انتهكت أبسط حقوقنا، واغتُصبت حريتنا داخل أكثر أماكننا حرمة وخصوصية: بيوتنا؟!
وقائمة تطول..
لا يقتصر الأمر على فيلم "أصحاب ولا أعز" الذي تعمدتُ أن لا أسهب فيه كثيراً، وأن لا أحوّل المشاركين فيه تمثيلًا وإنتاجاً إلى أبطال بإطالة تناوُلهم واحداً واحداً، وإسهاب قراءة ركاكة الفيلم وفجاجته، ولا انسجام عناصره لصالح الفكرة مدفوعة الأجر التي ذهب إليها الفيلم بطريقة مسعورة متعجلّة مفضوحة.
فالقائمة تطول، لا أقصد القائمة الممتدة على مدى تاريخ السينما، فلعل المثليّة التي وَجدت لها مساحة في فيلم "عمارة يعقوبيان"، على سبيل المثال، قد حملت بعض مبرراتها الدرامية في طيات تفاصيلها. بل سأكتفي، فقط، بأفلام لا يزيد عمر معظمها على عامين، ومنها: الفيلم البرازيلي "صحراء خاصة" )2021) Private Desert من إخراج علي موريتيبا. المرشح لأوسكار أفضل فيلم روائي دولي في دورة هذا العام (الدورة 94). شقيقة البطل تخبر شقيقها دانيال (أنطونيو صابويا) أنها قررت الارتباط والزواج، فيعبّر لها عن أمله أن لا تكون علاقتها مع خطيبها الجديد كما كانت مع الذين سبقوه، فتقول له ومن قال لك إنه رجل. "إنها امرأة تملك متجرًا في السوق وسوف نتزوّج وأعمل معها في المتجر"! دانيال بدوره يغرم بامرأة تبعد عن مكان سكنه في البرازيل ثلاثة آلاف كيلومتر، يقرر الذهاب إليها قاطعاً كل تلك المسافة بعدما تكرّر عدم ردّها على الهاتف، ليكتشف أنها رجل وليست امرأة، وبعد إصابته بالصدمة، وتعنيفه لها أنها لم تخبره، وبينما هو يريد أن يقفل راجعاً من حيث أتى يجر أذيال الخيبة، وإذا به يعود إليها/ إليه، ويقيم معها علاقة مخبولة مجنونة.
في فيلم "آخر ما رأته ميري" (2021) The Last Thing Mary Saw، يتناول المخرج إدواردو فيتاليتي وهو بالمناسبة كاتب النص أيضاً، قصة تاريخية توراتية عن علاقة بين سيدة وخادمتها، يلوثان بها (هذه العلاقة) نهر الأردن المقدس.
في الفيلم الروسي "حجرة" (2021) compartment، يتناول المخرج جوهو كيوشمانين وهو بالمناسبة كاتب النص، علاقة بين أستاذة جامعية في تخصص الأدب وواحدة من طالباتها ومساعدات البحث لديها. وقائمة تطول.
الأثر الباقي..
الأثر الذي يمكن أن تتصدى له السينما، مستفيدة من عناصرها البصرية والشكلية والمونتاجية، هو ذلك الأثر المتعلّق بتنظيم قواعد العقد الاجتماعي بين البشر، وتعزيز منظومة الأخلاق. هذا هو الأثر الذي يبقى، ويمكث في الأرض.
في فن السينما تتحوّل الأخلاق ببعدها الجماهيريّ إلى مقياسِ نجاحٍ بعيدٍ عن التحليلات التقنية الأخرى. وتتجلى بوصفها محدِّداً أساسيّاً لارتقاء المشهد من درجة البساطة إلى درجة الإبداع. أخلاقياتٌ مجسّدةٌ في الصورة كما في الكلمات.
لا تحتاج السينما، على سبيل المثال، إلى مختلف تفاصيل علاقة عاطفية/ جسدية بين رجل وامرأة، بل إلى قدرات إخراجية مونتاجية توصل اكتمال اللحظة دون مساس، ولا تماسّ ولا تبتّلٍ تجريديٍّ غير قادر على إيصال اللحظة بأرقى تجلياتها.
Author
-
روائي وإعلامي فلسطيني/أردني..مُعِدّ ومنتج تلفزيوني.. صدر له ثلاث روايات وأربع مجموعات قصصية