المثقف والثقافة كلمات بسيطة قليلة الأحرف سهلة بسيطة النطق، ولكنها واسعة المضمون كثيرة الفروع متعددة المَشارب، وتُعتبر الثقافة من بين إحدى الكلمات الأكثر تعقيداً وفهماً ربما في اللغة إلا أن ثَمّة مجموعة من التعريفات الحديثة التي تعتبر الثقافة “تهذيباً للنفس” أو “الفن والحضارة” أو مجموعة القيم والأفكار للأفراد في مجتمعٍ مَا، وهي جُلّها تلتقي ربما مع ما قاله قبل ذلك المفكر الجزائري المعاصر “مالك بن نبي” أحد أعلام الفكر الإسلامي وأحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين: “إن الثقافة هي مجموعة القِيَم التي يكتسبها الفرد في بيئته ومحيطه”.
غالباً فإن مفهوم الثقافة يتميز بشموليته لأنواع العلم والمعرفة وما يكتسبه الإنسان منها خلال طور حياته ونشاطاته التي يمارسها في المجتمع الذي يعيش فيه، والتي قد تميزه بشكل أو بآخر عن إنسان آخر يعيش معه في نفس المجتمع، وبالتالي فإن مفهوم الثقافة يُستخدم في مختلف العلوم كعلم اللّسانيّات وعلم النفس والإنسانيات، والفلسفة والاقتصاد والسياسة وغيرها، لذلك فهناك العديد من التعريفات حول هذا المفهوم بحسب الفرع المُستخدَمة به، وفيما يأتي أكثر التعريفات استخداماً في الأوساط العلمية.
مفهومَا الثقافة والمثقَّف:
الثقافة هي نظام يتكوّن من مجموعة من المعتقدات، والإجراءات والمعارف والسلوكيات، التي يتمّ اكتسابها وتكوينها ومشاركتها مع الآخرين ضِمن فئة معينة أو مجتمع إنساني معيَّن، وبالتالي فإن الثقافة التي يكوّنها ويكتسبها وينميها أيّ شخص سيكون -وبشكل أكيد- لها تأثير مهم وقوي على سلوكه ومفاهيمه وأسلوب حياته. كما أن الثقافة تدلنا على مجموعة السِّمات والصفات التي تميّز أيَّ مجتمع أو إنسان عن غيره ومحيطه، ومنها: الفنون والموسيقى والدين والأعراف والعادات والتقاليد والقيم.. إلخ.
يُعرِّف “مالينوفسكي” أهمّ العلماء المختصين في علم الإنسان الثقافةَ على: أنّها الوسيلة التي تحسّن من وضع الإنسان ليستطيع مواكبة التغيُّرات الحاصلة في مجتمعه أو بيئته عند سعيه لتلبية حاجاته الحياتية الأساسية.
أما “إدوارد بورنث تايلور” في كتابه “الثقافة البدائية” الصادر عام “1871” فقد عرّف الثقافة: بأنها “تلك الوحدة الكلية المعقَّدة التي تشمل المعرفة والإيمان والفن والأخلاق والقانون والعادات، بالإضافة إلى أيّ قدرات وعادات أخرى يكتسبها الإنسان بصفته عضواً في مجتمع”.
أما عالِم الإنسانيات الأمريكي “إدوارد سابير” فقد عرَّف الثقافة على أنها: أيّ صفة يتّصف بها الإنسان يكون مصدرها الإرث الاجتماعي. ومجموعة السلوكيات والأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر في مجتمعٍ مَا بسبب التأييد الاجتماعي لها والحفاظ عليها، ويكون أساسها التراث.
أما المثقَّف الحقيقيّ فقد وُصف بأنه: الشخص الذي تتحوَّل عنده الأفكار إلى نماذج ومُثُل ومبادئ لا تفرق بين المعتقدات واللون والجنس أو التوجهات السياسية، بمعنى أن المثقف هو ضمير المجتمع المعبِّر عن آلامه وآماله وأحلامه، وحامل مشعل النور للوصول إلى نظام سياسي واجتماعي أكثر إنسانية وعقلانية. ولا شَكّ أن هذا التعريف للمثقف سيُسقط الكثيرين ممن ينتحلون هذه الصفة أو ممن يمنحهم الناس تلك الصفة جُزافاً لمجرد حمله لشهادة علمية مرموقة، أو تميُّز فني أو شهرة إعلامية. وبالعكس قد تنطبق هذه الكلمة على كثير ممن يَبْدونَ بسطاء وبلا شهادات إنما يحملون في أعماق بساطتهم صورة المثقف الواعي والحقيقي.
المتعلم والمثقَّف والتمييز بينهما:
غالباً الناس ولعدم إدراكهم لا يميزون بين العلم والثقافة، ولكنْ هناك فرقٌ بينهما فالعِلم في متناول الجميع، وليس حكراً على مجتمع من المجتمعات، ولا يختصّ بمجموعة من الأفراد، فهو لجميع الناس، أما الثقافة فهي سمة وميزة لها درجات من الخصوصية تنفرد بها ربما فئة معينة، أو مجتمع معين تنسب إليه وتعبر عن سيرورته وخطّ سيره والخصائص والميزات التي يتمتع بها ويعكسها سلوكه وتعاملاته اليومية.
إن مفهوم الشخص المتعلم يقابله مفهوم الشخص المثقَّف، ولكن ثَمة اختلافات في معاني ودلالات المفهومين، فوفقاً للقواعد فإن كل مثقف ممكن أن يكون متعلماً، ولكن ليس كل متعلم ممكن أن يكون مثقفاً، فالمثقف هو الشخص الذي يعرف الكثير من الأمور وينهل ويلمّ من جميع القضايا والعلوم والمعارف، ولديه القدرة واللباقة على التعامل مع مداركه التعليمية بتوسع وانفتاح، لكونه محيطاً بمعارف عديدة تسمح له بالتحليل والتوسع في ربط القضايا ببعضها، وصولاً لاستنتاجات ونتائج ستكون أوسع وأشمل وأنضج من ذات النتائج التي يبحثها المتعلم في نفس القضية المثارة. كما أن المتعلم -وخاصة الأكاديمي- يحصر كل جهده العقلي والعلمي في تخصص علمي واحد، على حساب العلوم والمعارف الأخرى، بعكس المثقف الذي تتنوع ثقافته وتتوزع على علوم ومعارف حياتية لازِمةٍ عديدةٍ.
لا شَكّ أن الثقافة منذ القدم تنتقل من جيل لآخر، ومن أمة لأخرى عن طريق المدارس والأُسَر، ووسائل الإعلام المتنوعة وغيرها. وتتغير الثقافات وتتطور بمرور الأزمان، ويظهر ذلك بشكل واضح في المقارنة بين الثقافات القديمة والمعاصرة، فهناك العديد والكثير من التغيرات التي حدثت في النظريات والحقائق. ولا شَكّ بأن الثقافة أيضاً يكتسبها الإنسان عن طريق التعلم الذاتي وهي التي تكسبه القدرات والخبرات والتقليد والمحاكاة.
المثقَّف العربي وثورات ربيع لم تُزهر:
لقد كشفت ثورات الربيع العربي هشاشة البِنْية السياسية العربية التي اخترقها وعَشْعَش فيها الاستبداد والقمع والفساد، وكشفت عورات كثير من المثقفين الذين ابتعدوا ولأسباب متعددة -أهمها الخوف- عن قيم الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا ما يُبرز أزمة المثقف العربي المعاصر الذي لا يزال يراوح مكانه ضِمن حلقة السلطة والأيديولوجيا والمصالح الشخصية، فنسجت قطاعات واسعة من المثقفين العرب علاقات سياسية وأيديولوجية مع السلطة ومؤسساتها العسكرية والأمنية، والمستفيدين من الوضع السابق، وأقاموا تحالُفات قوامها الحفاظ على بنية الدولة العميقة المتجلية في المؤسسات القمعية نفسها، ولكن بعناوين وأسماء جديدة، وبهذا فقد سدت الطرق أمام القوى المثقفة الجديدة المؤمنة بالإصلاح والتحديث والديمقراطية، وهذا ما أفرغ الثورات العربية من مضمونها، وهذا أيضاً وللأسف ما جعلها تتأخر في الوصول إلى أهدافها ولا ترقى إلى مستوى الثورات الاجتماعية الحقيقية الناجحة.
المثقف السوري والثورة المظلومة
صور متعدّدة اتخذها المثقفون السوريون أمام التحوُّل الكبير الذي مثلته ثورة عام “2011”، فصحيح أن المثقف السوري لم يَقُدِ الثورة، أو يصنعها ويفجّرها ولكنْ قسم كبير منهم صاحبها وشارك فيها. وبالتأكيد انزوى قسم آخر منهم في الظل والصمت، وفضلوا تجنُّب المخاطرة لمعرفتهم أن الثمن في تصدُّر المشاهد غالٍ ومكلف. وفضل قسم آخر الاستمرار في مهنته التي اعتادها والاصطفاف مع النظام وخدمة سياسات السلطان، بل وتصدر قسم منهم المنابر لتبرير نهج الأسد “المجرم” وأفعاله. وقسم كبير آخر وكما مئات الآلاف سقط في الميدان مضرجاً بدمائه أو اختفى في ظلمات وغياهب السجون والمعتقلات، أو اضطُرَّ كما الملايين إلى رحلة التهجير على طريق “التغريبة السورية” الكبرى، أو الاختباء داخل مدن كسرتها قذائف القاذفات وبراميل الطائرات وواظب على الإبداع متمسكاً بحلم الحرية الموعودة، وبالغد الأفضل له ولمجتمعه الذي عانَى من ويلات وإرهاب حاكميه!.