مع استمرار التأزم السياسي والفشل في تأليف حكومة، وفي ظل الانهيار المالي والاقتصادي، يتواصل مسلسل سقوط الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي من دون معالجات.
ولأول مرة في تاريخ لبنان، قفز سعر الدولار صعوداً إلى ما فوق الخمسة عشر ألف ليرة، ودخلت معه البلاد في حالة من الفوضى، فوضى الأسعار والأسواق، فوضى الشارع الذي لا يملك المواطن سوى خيار النزول إليه للتعبير عن غضبه وسخطه من الحال التي وصل إليها وخوفه على مصيره ومستقبله.
تحوّل الدولار في لبنان إلى حديث الناس في ظل ارتفاعه المتواصل بلا ضوابط ووصوله إلى مستويات قياسية لم يصل إليها في تاريخه، وفقدت العملة اللبنانية أكثر من تسعين بالمئة من قيمتها الشرائية، وسرّع تفلّت سعر صرف العملة الخضراء الخطى نحو الانفجار الاجتماعي – المعيشي الشامل، مع عودة التحرّكات الاحتجاجية إلى الشارع في أكثر من منطقة لبنانية، حيث قُطعت طرقات وحُرقت إطارات، وأجبرت المحال التجارية والسوبرماكت على إقفال أبوابها في لحظة حبس فيها المواطنون أنفاسهم ودب الهم واليأس والخوف في نفوسهم، وتحوّل المشهد في لبنان إلى سوداوي قاتم.
وعلى الرغم من قتامة هذا الوضع وخطورته على ما تبقى من استقرار في حال استمراره على هذا المنوال من التردي والتدهور، فإن القوى السياسية اللبنانية تعيش حالة من اللامبالاة، وغير مكترثة للحال التي أوصلت الشعب اللبناني إليها، بل إنها ما زالت تمعن في ممارساتها وتغليب مصالحها الخاصة والحزبية والفئوية على مصلحة الوطن والمواطنين، وتعطّل تشكيل الحكومة في لحظة البلد بأمس الحاجة إليها، وما زالت تمارس لعبة شد الحبال والكباش وكأن لبنان بألف خير، بل أكثر من ذلك، فإن القوى السياسية تصم آذانها عن أي دعوات خارجية ودولية لتشكيل الحكومة، وترفض كل الوساطات سواء الداخلية أو الخارجية التي ما زالت تصطدم بجدار سميك من التعنُّت بالشروط والشروط المضادة، فيما البلد ينزف والناس يصرخون والأخطر لم يأت بعد.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن أسباب هذا الانهيار والتدهور المالي الحاصل سياسية بامتياز وليست اقتصادية فحسب، إذ يسعى كل فريق من فرقاء السلطة للضغط على الطرف الآخر، ويراهن على لي ذراعه لتقديم تنازلات معينة وتحقيق مكتسبات مختلفة يسعى لها كل فريق على حساب حياة المواطن ولقمة عيشه، ففريق رئيس الجمهورية "ميشال عون" ومعه التيار الوطني الحر برئاسة النائب "جبران باسيل" يحاول الضغط على الرئيس المكلف "سعد الحريري" من أجل تشكيل حكومة "تكنوسياسية من 20 وزيراً، يملك فيها الثلث المعطل"، وبالتالي إخضاع "الحريري" لشروط الرئيس "عون"، في المقابل يسعى الرئيس المكلف وفريقه إلى الضغط على رئيس الجمهورية من أجل تشكيل حكومة اختصاصيين من 18 وزيراً فقط، وعدم التعدي على ما يسميها "الحريري" صلاحيات الرئيس المكلف الدستورية، وفي المقلب الثالث يقف الثنائي الشيعي (أمل وحزب الله) حائراً بين الطرفين (عون والحريري)، بالرغم من أن رئيس مجلس النواب "نبيه بري" وحركته (أمل) تميل إلى "الحريري" وفريقه ولو بشكل غير علني.
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى أن بعض القوى السياسية اللبنانية (خاصة حزب لله) تنتظر التطورات الإقليمية وتراهن على الأحداث الخارجية وخاصة فيما يتعلق بالمفاوضات الأمريكية الإيرانية، وهذا يعني أن الوضع قد يبقى على ما هو عليه إلى ما بعد الانتخابات الإيرانية المقررة في حزيران المقبل.
فعلياً ما حال دون تأليف الحكومة حتى اليوم لا يزال قائماً، واللقاء السابع عشر بين رئيسي الجمهورية والحكومة المكلّف كان بلا نتيجة أي "بلا محصول"، فلا "الحريري" قادر على التأليف من دون أن يضمن غطاء أو ضوء خارجياً، ولا "عون" سيوافق على تقديم تنازلات لخصم يدرك أنه لن يكون قادراً على التعايش معه، فهدف الزيارة كان السيطرة على الفلتان الحاصل في السوق السوداء والارتفاع الجنوني لسعر الدولار وتهدئة الشارع الغاضب، الذي أعاد تفجيره بعد ساعات قليلة كلام الأمين العام لحزب الله "حسن نصرالله" عندما دعا "الحريري" لتشكيل حكومة "تكنو- سياسية" وحذر البلد من حرب أهلية، وهو بذلك أعاد الأمور إلى ما قبل المربع الأول.
إذاً الأنظار اليوم تتجه إلى الاجتماع المقرر بين الرئيسين "عون" و"الحريري"، الاثنين، ولكن على ما يبدو فإن الأمور تتجه نحو العرقلة من جديد وبالتالي إلى التصعيد وهو ما ينذر بفوضى وانفجار اجتماعي في الشارع اللبناني الذي ليس أمامه اليوم سوى خيار انتظار لقاء الإثنين، وإن غداً لناظره قريب.