لطالما كانت العشائر في سورية نسيجاً اجتماعياً قوياً مميزاً، لعبت أدواراً هامة في تاريخها النضالي ضد الاستعمار، ولكن ومنذ قيام مايسمى بالحركة التصحيحية، وفي هذه الأوقات التي نشهد فيها شتات الحال وتغير الأحوال، أتساءل هل لايزال هناك دور حقيقي فاعل أو حتى دور بسيط للعشيرة والقبيلة بالتأثير الإيجابي في الحياة السياسية والعسكرية، بل وحتى الاجتماعية منها..؟أم أن عشائرنا أصبحت لا أكثر من جسرِ عبور و أداة وظيفية يستخدمها وحسب الحاجة (القاصي والداني )، من أصحاب النفوذ والسيطرة والسلطة التي باتت مناطق الجزيرة و الفرات تعج بهم، ويستخدمون عشائر المنطقة بكل الطرق المتاحة لتنفيذ أهدافهم واستراتيجياتهم المتباينة على الجغرافيا السورية..؟! .
وهل باتت عشائرنا التي “صالت وجالت” و”أفرحت وآلمت” على مر العصور في وقتنا هذا وفي الثورة السورية العظيمة، مجرد تسمية _”لاتسمن أوتغني من جوع” _ وما فتئت الأجيال الجديدة المتعاقبة تتنصل منها وتخلع ثوبها وتخرج من دائرتها”المتهالكة” شيئاً فشيئاً..؟!
يقول المؤرخ الأمريكي “هوارد زن”: إنَّ سلطة الأشخاص الموجودون في الأعلى تعتمد على طاعة الأشخاص الموجودين في الأدنى، وعندما يتوقف الناس عن الطاعة، ستختفي قوة من طاعوه، ولطالما تذكرني هذه المقولة بنجاح محاولات نظام “الوارث و الموروث“ من “آل الأسد” باستخدام كافة أساليب التسلط والترهيب والوعود والشعارات الفضائية الفارغة، على إستعباد الشعب بكل قواه وفئاته ومكونات عشائره واستقطابهم بطرق عدة وسجنهم طوعاً في زنازين الخوف و الإذعان، والاستسلام مكرهين طائعين لحكم طغاة مستبدين، لابل وليس ذلك وحسب بل وللأسف الشديد قد حول أو تحول الكثير منهم إلى مخبرين ووشاة وأدوات قمع رخيصة تعين “الفرعون” في استبداده، وتعمل على تنفيذ أحكامه وقوانينه الظالمة الجائرة…!!
من خلال ماتقدم فحقيقة الأمر لم تعد القبائل و العشائر العربية في عهد “الأسدين” الأب والابن وحتى الآن، كما كانت قبل عهديهما، حيث إن العشائر العربية كانت تُشكّل أحد الأسس القوية في المشاريع السياسية السورية خلال العقود السابقة، ولكنها الآن وعلى الرغم من أن هيكلياتها وبنيتها في عصر نظام “الوارث والموروث” لم تتغيّر، إلا أنها فقدت السطوة والموقع المفروض لها لأن تمارسه في الحياة السياسة والاجتماعية المحلية، بل لقد جَعَلَ كثير من “شيوخ” هذه العشائر ممن أصبحوا “وكلاء” ومصفقين ومطبلين للنظام من عشائرهم مطية يحقق من خلالها الأخير غاياته وأهدافه، في مناطقنا الشرقية الغنية بمواردها وخيراتها، أما الثمن فبعض “الفتات” والإستثناءات الفارغة المقدمة لشيوخ “البصل”هؤلاء ! ونتيجة هذا كله أصبحت العلاقة بين شيوخ العشائر “التقليديين” وبين أفراد عشائرهم علاقات مصلحية متفككة، فقد معها “المتمشيخين” مصداقيتهم ومواقعهم وإحترام أبناء عشائرهم التي كانت مفروضة بحب وقبول منهم سابقاً.
أما في الثورة السورية وأحداثها ومجرياتها ومع بدء تحرير المناطق في دير الزور، والحسكة، والرقة، وأريافها فقد انقسمت العشائر مع شيوخها حتى من أبناء وأخوة البيت الواحد و”تشظت” وبرأيي إلى ثلاثة أقسام :
_القسم الأول مؤيد للثورة ويقف مناصراً لها ومقاتلاً شرساً فيها، له مالها وعليه ماعليها. ولكن في الفترات الاخيرة طغت العصبية القبلية و العشائرية المقيتة على الولاءات الوطنية وكثرت الصدامات والتناحر بين أفراد العشائر المختلفة المتواجدة في المناطق المحررة وللأسف على قضايا حياتية وخلافية بسيطة متعددة، استخدمت معها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة وسالت فيها الدماء من أطراف عدة.
_القسم الثاني تعود على الخنوع والذل والانبطاح وعادات الانسياق والركوع لسيدهم “فرعون عصره الأسد” رغم كل الجرائم والمجازر البشعة التي أمر بها وقام بها جيشه وأمنه ضد أبناء وطنهم وجلدتهم..!
_ القسم الثالث “رمادي” متلون “يدبك” و”ينخ” دائماً في الصف العامر ومع أي قوى متنفذة في مناطقه وعلى مبدأ “مين ما أخذ إمنا بناديلوا عمنا”
على أرض الواقع فالملاحظ أن العشائر في مراحل تناوب القوى المهيمنة وازدحام مناطق النفوذ بهم ( النظام، قسد، الأمريكان، الروس، الأتراك، الإيرانيون) في شرقي الفرات التي لاتزال إلى الآن تعيش حالة “الفوضى الأمنية”، وعدم الاستقرار الممزوج بالفقر والجوع، فجميع المتنفذين يحاولون عاجلاً غير آجل السباق مع الزمن ليستقطب ويقيم علاقات “عسكرية ميليشياوية” متعددة بأساليب واغراءات وأشكال مختلفة (مادية، معنوية، وعود اقتصادية، نسليح.. الخ) لتربطه مع العشائر ويجعل منها وكما قلنا سابقاً “أداة وظيفية” يحقق من خلالها إستراتيجياته وأهدافه المرحلية ليفرض هيمنته اللاحقة على المنطقة بأكملها.
إن هذا التسابق الحاصل لأصحاب النفوذ والجهات العسكرية المسيطرة ومحاولات كسب الولاءات العشائرية و المناطقية، والسعي الحثيث لتشكيل أذرع وميليشيات مسلحة، قد جعل العشائر في مناطقها بعد لحمتها وقوتها ضعيفة متعددة الولاءات متضاربة المواقف والأهداف، أهداف يقوم برسمها ويضعها الداعم والقائم بالتشكيل لتحقيق غاياته بصرف للنظر عن مصير ومستقبل البلاد والعباد التي لاتهمهم لا من قريب أو من بعيد، فها هي إيران لتنفيذ مآربها في أرياف دير الزور قد شكلت وسلحت ميليشيا “لواء الباقر” من أبناء عشيرة “البقارة” بفيادة الخائن “نواف البشير” وأولاده، وفي “الحسكة“ شكلت ودربت الميليشيا المسماة “المغاوير” من أبناء عشيرة “طي” بقيادة المستشيخ “محمد الفارس” عضو مجلس “التصفيق” السوري الذي رحل غير مأسوفاً عليه قبل أشهر عدة.
إيران في واقع الحال لم تتوانى أيضاً، وطيلة سنوات خلت من تأجيج الصراعات العشائرية، من خلال تسليحها لعدد من أبناء العشائر، ومحاولة الزج بهم في صفوف الميليشيات التابعة لها بهدف إضعاف قوة النسيج الاجتماعي عامة، وتقليص دور العشائر وإشغالها في دوامة الصراعات الجانبية المتعددة، وهذا ماسيؤدي بدوره حتماً إلى تشظ.ٍ وتفكك أكبر في مكونات نسيج العشائر وعلاقاتهم المجتمعية والقبلية التي لن “تندمل” آثارها وعواقبها ببساطة مع مرور الزمن وتعاقب الأجيال.
أما نظام الغدر والإجرام فقد عزف أيضاً على وتر العشائر فشكل منهم ميليشيات “الدفاع الوطني” وأسود الشرقية” من بعض عشيرة “الشعيطات” وحرام أن يكونوا منها وزج بهم في “الثقب الأسود” البادية السورية لمواجهة تنظيم “داعش”، و أجرى مؤخراً عدة لقاءات برفقة وتعليمات الجانب الروسي مع مايسمى بشيوخ “العار” والقيام بالإعلان عن تشكيل ودعم وحدات مايسمى “المقاومة العشائرية الشعبية” لطرد من أسماهم بالدخلاء المحتلين من(أمريكيين وأتراك وفرنسيين) الذين دنسوا تراب الوطن بحجج واهية، ناسياً ومتناسياً هذا النظام المجرم الإبادات الجماعية والإرهاب وجرائم الحرب التي قام بها بقيادة فرعون عصره المسؤول الَوحيد عما يجري فوق الأراضي السورية من ويلات وخراب وتقتيل وتشريد وتهجير..!
_ميليشيات “قسد” الإرهابية الإنفصالية المدعومة أمريكياً فحدث ولاحرج. فقد استثمرت هي أيضاً كغيرها (ومافي حدا أحسن من حدا) في البعد العشائري في مناطق نفوذها، واتخذت من بعض أبناء العشائر ميليشيات مسلحة لتحقيق بعض أهدافها وايديولوجيتها، ووضعتهم بالإتفاق مع الأمريكان في الصفوف الأولى لمحاربة تنظيم داعش الإرهابي، بل وأقامت لهم مجالس عسكرية متعددة في محاولة منها إخفاء الطابع القومي الكردي عن قواتها وأهدافها الإنفصالية المشبوهة والمكشوفة..!!
ختاماً: مع كل التحولات التي مرت بها الثورة السورية فإن المكون العشائري باعتباره الرابط الأقوى والأكبر بعد الرابط الديني والوطني، الذي يجمع مكونات المجتمع السوري، فبلاشك أن هذا المكون الهام قد عانى الكثير من التصدعات و التشققات في بنيته واتجاهاته التي أدت إلى التشظي المؤسف في مواقفه من ثورة الشعب السوري، فظهرت إنعكاسات ذلك وآثاره السلبية واضحة على مجريات الثورة بناحيتيها العسكرية منها والسياسية، بل ولأهمية هذا المكون فقد أصبح الشارع السوري المعارض يتسائل حائراً ومتألماً عن ماهية دور العشائر المنقسم التي أضافت سبباً سلبياً هاماً آخر إلى جملة الأسباب التي أخرت الثورة عن تحقيق أهدافها المرسومة، وهنا لابد لي أنا وكثيرين ممن معي من التساؤل هل وجود الرابطة العشائرية في زماننا هذا وفي حياتنا السياسية والاجتماعية هذه، وبهذا الشكل الذي تم هي نعمة أم نقمة؟.