درس من الجغرافيا
في العلاقات الدولية، يمكن للدولة أن تختار حلفاءها وليس جيرانها، حيث تلعب الجغرافيا السياسية دوراً حاسماً في الشؤون الدولية، وبحكم أن تركيا وسورية دولتان متجاورتان وتشتركان بحدود يبلغ طولها أكثر من 900 كم فما يحدث في سورية يؤثر في تركيا والعكس أيضاً صحيح، وربما هذا ما دفع أردوغان للإعلان أن الشؤون السورية هي مسألة تتعلق بالسياسة الداخلية لتركيا.
نهاية شهر العسل
في المرحلة الأولى من الاضطرابات السورية، كانت تركيا تعتقد أنها تملك تأثيراً سياسياً على النظام السوري، فالتقى وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو بشار الأسد، وحاول التوسط في الأزمة التي كانت تتفاعل بسرعة وعنف، اقترح داود أوغلو وقف القمع، وإجراء إصلاحات سياسية شاملة، وتخفيف النزاعات الداخلية، وإرساء الأساس لسياسة ديمقراطية، لكن مقترحات تركيا قُوبلت بالتسويف، والمماطلة، بحجة أن أهل مكة أدرى بشعابها.
بعد فترة قصيرة من الاتصال، أدركت الحكومة التركية أن نفوذها على الحكومة السورية محدود، أشار الرئيس التركي عبد الله غول إلى أن “الثقة في الحكومة السورية قد تلاشت”، وأعلن داود أوغلو أن “الأسد وصل لنهاية الطريق” متوقعاً أن سقوط نظامه بات قريباً، وبدأت الحكومة التركية بدعم المعارضة السورية.
حسابات الحقل وحسابات البيدر
كانت الرسالة التي وصلت من ثورة تونس ومصر وليبيا أن مرحلة إسقاط النظام ستنتهي بسرعة، وستأتي الثورة بنظام جديد صديق لتركيا، ومتفق أيديولوجياً مع حزب العدالة والتنمية، مما دفع أنقرة للتخلي عن مبدأ راسخ في السياسة الخارجية التركية وهو مبدأ احترام سيادة الدول الأخرى، وعدم التدخل بشؤونها الداخلية، فاستضافت المجلس الوطني السوري، وبعد بضعة أشهر أخذ المنشقون عن الجيش السوري بتشكيل الجيش السوري الحر، كما نظمت تركيا اجتماع أصدقاء الشعب السوري الثاني في نيسان 2012، والذي سعت فيه تركيا للحصول على اعتراف دولي بالمجلس الوطني السوري باعتباره الحكومة السورية الشرعية في المنفى، وفرضت سلسلة من العقوبات على النظام، مثل وقف التبادل المالي بين البنكين المركزيين في البلدين، وتجميد الأصول السورية في تركيا، ووقف التعاون الإستراتيجي رفيع المستوى بين البلدين.
داخلياً كانت هذه السياسة موضع انتقادات متزايدة من قبل حزب الشعب الجمهوري، الذي هاجم سياسة التدخل في الشؤون الداخلية لسورية، واعتبر الحكومة مسؤولة عن الاضطرابات على الحدود، وقدر الخسائر السنوية الناتجة عن قطع العلاقات مع النظام بحوالي 7-8 مليارات دولار أمريكي سنوياً.
أخطأت تركيا في تقدير استعداد حلفائها في أوروبا والولايات المتحدة للتدخل في سورية، بالإضافة إلى ذلك، استهانت تركيا باستعداد حلفاء النظام التقليديين، روسيا وإيران لحمايته بأي ثمن، علاوة على ذلك، كان على تركيا أن تتعامل مع أزمة اللاجئين السوريين، التي أدت إلى فرار 4 ملايين مدني سوري إلى تركيا.
على الأرض، بينما كانت قدرات تنظيمات قنديل الإرهابية تتزايد بفعل الدعم الغربي غير المحدود، لم تعد المعارضة السورية قادرة على تحقيق حسم عسكري ضد النظام، فقد اختلت موازين القوى بشكل كبير لصالح النظام بعد التدخل الروسي.
زاد الطين بلة إسقاط الطائرة الحربية الروسية في 24 تشرين الثاني 2015 في حادثة لم تتعرض لها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية، فانخفضت العلاقات الروسية التركية إلى نقطة الصفر، وفرضت روسيا إجراءات انتقامية ضد تركيا على الجوانب الاقتصادية، مما كان له تأثير على المصالح التركية.
درس من التاريخ
كان الدرس الذي لم يتعلمه قادة جمعية الاتحاد والترقي من السلطان عبد الحميد خان، هو أن اتحاد أوروبا مع روسيا ضد الإمبراطورية العثمانية سيؤدي لسقوطها، لأنه يعني محاصرتها في الفضائين الحيويين لها البحر الأسود والبحر المتوسط، اصطف قادة الاتحاد والترقي في الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا تاركين روسيا وفرنسا وبريطانيا في صف واحد، فحُوصرت الدولة العثمانية وتقاسم الحلفاء في معاهدة “سايكس بيكو” تركة الرجل المريض، كان أردوغان يعي هذا الدرس جيداً، فبعد فشل الانقلاب العسكري في تركيا عام 2016 كان واضحاً أن الغرب يتآمر على أمن تركيا، كانت الخيارات واضحة أمام القيادة التركية، وفي أول زيارة له بعد إحباط الانقلاب توجه أردوغان إلى روسيا، للبحث عن شركاء دوليين جدد، وللحصول على مساحة مناورة لتركيا من خلال إصلاح العلاقات مع روسيا.