أمير رضوان – كاتب صحفي سوري
لا شكَّ أن السوري الذي عايش أجواء الثورة، يجلس في أي مكان من العالم ويتأمل حال الحركات الاحتجاجية أو المتغيرات الدولية، وأثرها على قضيته في سورية سلباً أو إيجاباً، لعلها تحرك المياه الراكدة منذ سنوات، وتقلب الكفة التي انقلبت علينا بسواعد روسية إيرانية ثم توقف الحال عند واقعنا الآن، حيث صارت حركتنا ثقيلة داخل سورية مع اكتظاظ ما تبقى من الشمال المحرر بالنازحين، والانتشار الأثقل للسوريين في كافة دول العالم، بمواجهة الشعبوية التي تنهض يوماً بعد يوم.
لذلك بدَا أن الحل الميؤوس منه داخل سورية، هو أقرب للتحقق من الخارج، فنترقب الحروب والنيازك والاحتجاجات والاقتصادات لعل فيها حركةً تُجبِر طرفاً ما على اتخاذ موقفٍ ما، ثم نستفيد وتُحل كافة مشاكلنا العالقة وتعود أحلامنا المفقودة!
ومن ذلك، أن البعض يتوجه بالنصح إلى دولةٍ ما لفعل شيءٍ ما، أو ينهاها عن فعله على مبدأ (اِسألْ مُجرِّباً ولا تسأل حكيماً)، وأن السوري صار حكيماً بعد انكشاف كافة الأطراف أمامه، ولا ننسى خبرة السنين والتجارب المريرة التي عايشناها على غرار المعاناة الطويلة للشعب الفلسطيني.
فمثلاً، عندما انطلقت مظاهرات عارمة داخل الولايات المتحدة الأمريكية في شهر مايو عام 2020 احتجاجاً على قتل الشرطة للمواطن الأمريكي من أصل إفريقي “جورج فلويد”، بدأ عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي من السوريين توجيه النصح لــ “ثوار أمريكا” كما قيل حينها، بألا يسمعوا لشيخٍ يقول لهم “هبوووا”، وألا يصدقوا مجموعة “أصدقاء الشعب الأمريكي”، وغير ذلك من المواقف التي خَبِرها الشعب السوري جيداً طوال سنوات الثورة، وباتت بالنسبة له دروساً مضحكة ومؤلمة في الوقت ذاته.
وقبل ذلك بعامين، في شهر نوفمبر عام 2018، خرج عشرات الآلاف من الفرنسيين في مظاهرات ضد قرارات الحكومة بفرض الضرائب، وأطلقوا على حركتهم اسم “السترات الصفراء” نسبة للزي العمالي الذي يرتدونه، سارع بعض رواد مواقع تواصُلنا من السوريين إلى نصح الفرنسيين بأشياء مستوحاة من مواقف دولية “شجب، استنكار، تنديد”، ثم “خذلان، تخلي، تواطؤ”، بالإضافة لشخصيات ظهرت في بداية الثورة على شاشات التلفاز ما زالت عالقة في الذاكرة، منها محلل يحمل فلاشة بداخلها ملفات ضد المتظاهرين، أو محافظ يقول للناس: عيب هاي اسمها مظاهرة، أو مذيعة تقول إن الناس خرجت لكي تشكر ربها على نعمة المطر، أو شخص ينفي حدوث أي شيء يعكر صفو الحياة بالقول: الوضع أمن وأمان والله يخليلنا سيادتو!
لكن ما أثار اهتمام شعبنا هو التطورات المرتبطة بالحدود الروسية، وهنا أتحدث عن الاحتجاجات الكازاخية في يناير من العام الجاري، وتلاها الحرب الروسية في أوكرانيا والتي ما زلنا نعيش أيامها أثناء كتابة هذه السطور.
روسيا التي تتدخل في سورية بشكل فجّ، وتقمع أحلامنا بالحرية والديمقراطية، وتسند الديكتاتور بشار الأسد من السقوط، سارعت لقمع انتفاضة شعب كازاخستان ضد ديكتاتوره الخاص به، لتغلق منفذاً للأمل أمام الكازاخيين وأمامنا، وتغلق عليهم طريق الإسقاطات التي أمطرناهم بها فور اندلاع ثورتهم، لكنها مع الأسف وُئِدَت في مهدها.
أما أوكرانيا، ذلك الشعب الطامح للعيش باستقلال وحرية بعيداً عن الهيمنة الروسية، فلاقى الكثير مما لاقيناه، إذ إن روسيا وبعد فشلها باقتلاع الرئيس الأوكراني وحكومته سريعاً، بدأت بتطبيق النموذج السوري، والذي بات نسخة محدثة عن غروزني الشيشانية في سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها موسكو، ما أدى لحدوث موجات لجوء من أوكرانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي، ونتج عن ذلك أيضاً قصفٌ روسي طال البنى التحتية والمراكز المدنية حالها حال المدن السورية، وكأن أوكرانيا باتت النموذج الأقرب لسورية، أو أن روسيا لم تشبع من دمائنا ولم تردعها صرخات شعبنا بل أرادت تعميم التجربة كلما سنحت لها الفرصة بنقلها لشعب آخر.
إنها إذن المأساة السورية، التي عايشها شعبنا بكافة تفاصيلها وكان شاهداً عليها وعلى كافة المتورطين بها، فتعلَّم منها دروساً كثيرة لدرجة أن المواطن السوري صار مدرسة متكاملة في فهم المجتمع الدولي، ومجابهة روسيا وإيران ونظام الأسد بكل ما أمكنه، وهو يوجه رسالة صمود لكافة شعوب العالم، أنه ما زال هنا صامداً أمام الآلة الحربية الروسية والإيرانية، وأمام كل مَن تواطَأَ ضده أو قدّم التنازلات على حسابه، أو لعب في مصيره وهيمن على أرزاقه وأمنه.
إنها المأساة السورية التي يُرجَى أن تُطوَى صفحتها كما طوت ألمانيا صفحتها ما بعد الحرب العالمية، وتتحول إلى تجربة فريدة في الاقتصاد والصناعة والنهوض في كافة المجالات، لا أن تمضي سورية لمزيد من إعطاء التجارب في حجم الألم والتضحية والمعاناة.