العملية العسكرية الخاصة، كما تطلق عليها التسمية في روسيا، ليست أكثر من مجرد حرب عدوانية ضد أوكرانيا.
خلال الشهرين الماضيين استعادت القوات المسلحة الأوكرانية نصف الأراضي التي احتلتها روسي الاتحادية منذ نهاية شهر شباط/ فبراير. واعتباراً من الأسبوع الماضي تجاوز عدد القتلى في صفوف الجيش الروسي 80 ألف قتيل.
ومن اللافت أن حصيلة القتلى وصلت إلى 50 ألف قتيل في بداية شهر أيلول/ سبتمبر وإلى 70 ألف قتيل قبل أسبوعين ما يدل على أن الخسائر البشرية في صفوف الجيش الروس أخذت في التزايد بشكل ملحوظ وسط تعزيز القوات الأوكرانية بالأسلحة الغربية الحديثة. وإذا أضيف إلى هذه الأرقام عدد الجرحى والمفقودين والهاربين من الجيش فإن وضع الجيش الروسي سيبدو مخيباً للآمال.
روسيا تبرر انسحابها بأنه مناورة تكتيكية
لعدة أشهر متتالية لم تتمكن روسيا من إجراء عمليات هجومية ناجحة سوى الاستيلاء على عدد من القرى في منطقة دونباس.
وفي الوقت عينه، تشهد الأراضي الأوكرانية المحتلة الأخرى انسحاباً واسعاً للقوات الروسية التي تحاول موسكو إظهاره كـبادرة حسن نية أو مناورة تكتيكية.
لقد أدى الوضع الحالي في ساحة المعركة إلى اتخاذ الديكتاتور قرارات غير مدروسة بناءً على المشاعر فقط ابتداء من محاولة ضم الأراضي المحتلة في أيلول/ سبتمبر دون حل مسألة الحدود ولغاية إعلان تعبئة جزئية وإرسال جنود غير مدربين ومجهزين بشكل جيد إلى خطوط الجبهة.
دفع وضع بوتين الميئوس منه إلى إشراك السجناء ومرتكبي الجرائم الخطيرة في العمليات العسكرية وإحداث التغييرات في الكوادر في جميع المؤسسات الرئيسية، مما وضع بدوره ظروفاً أساسية إضافية للانقسام بين النخب العسكرية وتعزيز المزاج الاحتجاجي العام بحيث أن الكرملين لا يلحق أن يقمع موجات من السخط الاجتماعي حتى تظهر موجات جديدة.
وفي حال لم يجمد بوتين الأعمال القتالية بطريقة ما ولم يوقف تقدم القوات الأوكرانية فمن الواضح أن “بادرات حسن النية” ستحدث كثيراً ما، الأمر الذي يشير إليه القرار الأخير لوزارة الدفاع الروسية بمغادرة الضفة اليمنى لنهر دنيبرو في مقاطعة خيرسون تحت ضغط من القوات المسلحة الأوكرانية، أو بالفرار الشائن من مدينة خيرسون وهي العاصمة الوحيدة من عواصم المقاطعات الأوكرانية التي سقطت بيد موسكو بعد الغزو في شهر شباط/ فبراير.
تدرك وزارة الدفاع الروسية أن الجيش الأوكراني لديه الآن مبادرة إستراتيجية وأنه متحمس للغاية بالنجاحات الأخيرة، ما لا يمكن قوله عن الجيش الروسي الذي حتى في ظل قيادة الجنرال سوروفكين لم يتمكن من أداء مهامه الرئيسية. وفقدت روسيا أفضل مدربيها وضباطها العسكريين الذين ساهموا في تدريب المجندين.
بالإضافة إلى ذلك، تقوض العقوبات الغربية الاقتصاد الروسي بينما يعجز مجمعها الصناعي العسكري عن تعويض كل ما دمر وخسر ونفد خلال الحرب. تشير بيانات للبنتاغون إلى أن روسيا فقدت نصف مخزونها من الدبابات.
في الواقع، لو لا توريد إيران طائرات بدون طيار حديثة إلى روسيا في نهاية الصيف لكان وضع بوتين أسوأ بكثير. ومع ذلك، لا يخفى على أحد أن إمكانات إيران، وحتى مع إمكانات كوريا الشمالية، لا تتناسب مع إمكانات العالم المتحضر بأكمله الذي يدعم أوكرانيا بنشاط.
المفاوضات بالنسبة إلى بوتين تعني قبول شروطه
تحاول وزارة الدفاع الروسية كسب الوقت لتثق في أن القوات الأوكرانية لن تمضي قدماً في حين تحاول روسيا إعادة نشر وتسليح قواتها الموجودة إلى جانب تجنيد قوات جديدة في الخريف ومتطوعين.
في الوقت نفسه، تتزايد أحاديث السياسيين الغربيين الموالين لروسيا وبعض ممثلي السلطات الروسية حول احتمال وضرورة المفاوضات. ولكن يجب الإدراك أن المفاوضات بالشروط الروسية لا يجوز إجراؤها إطلاقاً.
لم تعد موسكو تطالب بنزع السلاح واجتثاث النازية في أوكرانيا وحتى تتلاشى مسائل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. غير أن بوتين لا يزال يريد الحفاظ على الوجود الروسي في الأراضي الأوكرانية المحتلة. إن المفاوضات بالنسبة إليه تعني القبول بشروطه.
يشبّه الوضع الحالي باتفاقية ميونيخ لعام 1938 المبرمة بين ألمانيا وبريطانيا العظمى وفرنسا ومملكة إيطاليا إلى حد ما التي نصت على تسليم تشيكوسلوفاكيا إقليم سوديتنلاند إلى ألمانيا مقابل ضمانات عدم بدء حرب في أوروبا.
أدت الرغبة في كسب عامين من السلام على حساب سيادة دولة أخرى إلى أكبر حرب أودت بحياة ملايين الأشخاص. في يومنا هذا، يسمى ذلك سياسة الاسترضاء لكن في الواقع فإنه ليس أكثر من الأنانية العادية والرغبة في إلقاء عبء هذه القضية الحتمية على كواهل أحفادنا وليس فقط في أوكرانيا.
لا يمكن للمعتدي والمحتل أن ينظرا إلى الهدنة بعيني محب للسلام إذ يستغلانها لزيادة شرهما. ويتصرف بوتين بالطريقة نفسها تماماً حيث لا يمكنه أن يقبل فكرة التخلي عن الخطط المعلنة سابقاً تجاه أوكرانيا مثلما لا يمكنه أن يتخلى عن طبيعته. ولن يعيش في وئام مع أوكرانيا المستقلة التي سماها علنية بـ”خطأ لينين”.
وإذا حصل الديكتاتور على الهدنة فلا شك أنه سيستجمع قواه لمحاولة تحقيق ما لم يتمكن من تحقيقه في البداية مكتسباً خبرة كبيرة ومعرفة جديدة،. من المحتمل أنه سيفعل ذلك بمساعدة بيلاروس بصفتها ليس فقط كنقطة لإطلاق الصواريخ وهجوم القوات الروسية بل أيضاً كمشارك كامل في الحرب.
وفي حالة نجاح بوتين في أوكرانيا فستطال طموحاته دول البلطيق لاستعادة “العدالة التاريخية”.
لقد ضعف نظام بوتين والآن هو أفضل وقت للقضاء عليه.
الآن تعرض روسيا الجلوس إلى طاولة المفاوضات دون شروط مسبقة. ومع ذلك، إن التنازل الوحيد الذي يمكن أن يسمح به الكرملين، وحتى من الناحية النظرية البحتة، هو إعادة منطقة خيرسون إلى أوكرانيا.
بالطبع، سيثير ذلك أسئلة كثيرة في المجتمع الروسي يجب على الكرملين الإجابة عنها وحتى لن يكون ضرب واحتجاز بضعة آلاف من الروس الساخطين كافياً.
ومن الطريف ماذا ستفعل وسائل الإعلام الفيدرالية مع تصريح بوتين السابق بأن روسيا قد أتت إلى خيرسون إلى الأبد؟ وكيف يمكن حل ذلك من الناحية القانونية والسياسية؟.
ومع ذلك، حتى في حال قدم الكرملين مثل هذا التنازل فإن المجتمع الأوكراني لن يقبل السلام بهذه الشروط إلا بعد تحرير جميع الأراضي المحتلة ضمن حدود عام 1991، حسب تعبير الرئيس الأوكراني، وذلك مع دفع روسيا تعويضات لأوكرانيا ومعاقبة المجرمين الروس.
بالطبع، هذا يعني انهيار نظام لبوتين وربما قد يؤدي إلى وفاته. هناك أيضاً احتمال كبير أنه في روسيا ستبدأ أعمال شغب قد تتسبب في انهيار روسيا بنهاية المطاف.
على أية حال الآن تغيب نقاط التقاء وموضوعات للنقاش وكما لا يوجد شروط لإحلال السلام أو الهدنة. ومهما قضي الأمر مع بوتين، إما محكمة دولية أو اللجوء السياسي في الصين أو الموت على يد المقربين أو شعبه، فإن مسألة وحدة أراضي أوكرانيا ليست مسألة تكرار أخطاء أسلافنا بل مسألة عزم واستعداد لعدم ترك المشكلة جانباً إذ حكمت الظروف حالياً لوضع حد لهذه المشكلة.
تزداد القوة الروسية ضعفاً في ظل نفاد الموارد وانخفاض الدعم وزيادة الأسئلة واستياء أبناء الشعب الروسي. وحالياً يسعى بوتين إلى ضمان بضعة أشهر من الليالي الهادئة لنفسه من أجل استجماع قواه. وإذا لم نساعد أوكرانيا على هزيمة روسيا الآن، وهو أنسب وقت، فإن ثمن الانتصار سيكون أعلى بكثير فيما بعد ليس لأوكرانيا نفسها فحسب بل للغرب بأكمله.
تفتقر أوكرانيا إلى إمدادات الأسلحة وخاصة أنظمة الدفاع الصاروخي الحديثة التي ستساعد في تحييد الهجمات الصاروخية على المدن والبنية التحتية، وحتى لا يكفي ذلك إذ أنها بحاجة ماسة إلى الأسلحة الهجومية وهي الدبابات وعربات قتال المشاة والطائرات والصواريخ التكتيكية. ولا يجوز التواني والتراخي بعدما قطعت أوكرانيا شوطاً كبيراً ولقي مئات الآلاف من الأوكران حتفهم دفاعاً عن وطنهم وأوروبا والعالم المتحضر بأسره من العدوان الذي بدا أمراً مستحيلاً وبات حقيقياً.