تكاد تكون المرات قليلةً، تلك التي يجتمع فيها السوريون على موقف من حدثٍ أو شخصيةٍ، هذا ما حدث اليوم مع نبأ وفاة المفكّر الإسلامي التنويري جودت سعيد، الذي ينحدر من قرية "بئر العجم"، التابعة لمنطقة الجولان السورية، وهو من مواليد عام 1931، ومن المكون الشركسي السوري.
جودت سعيد مفكر إسلامي أكثر منه رجل دين أو شيخ، وهو خرج في فكره التنويري عن الفهم الذي ساد لدى غالبية المجتهدين في الشأن الفكري والديني الإسلامي، إذ تبنّى مفهوم اللاعنف، معتمداً في هذا الفكر على مبدأ "لا إكراه في الدين".
يعتقد جودت سعيد أن الأنبياء نشروا رسالاتهم الدينية انطلاقاً من إيمانهم بعقل الإنسان، ولهذا يبدو مفهوم القمع والقهر واستخدام العنف مفهوماً خارج جوهر الرسالات الدينية، وهو أمر قاد "سعيد" إلى الإيمان بشكل واضح بالديمقراطية.
وحول فهمه للثورة السورية، كان يقول لا ينبغي أن تتجه الثورة إلى مربع العسكرة واستخدام القوة، وهو يدلل على هذه الرؤية من موقف النبي محمد صلى الله عليه وسلّم، حيث طالب المؤمنين بدعوته أن لا يردّوا على استفزازات الرافضين للدعوة الإسلامية، وهذا ظهر في فتح مكة، حيث لم يقم المسلمون بأي عملية انتقام من قريش، التي مارست ضدهم القهر والإذلال.
جودت سعيد الذي أشهر رؤيته الإسلامية اللاعنفية، أرعب نظام الأسد بمرحلتيه (مرحلة الأب ومرحلة الابن)، حيث كان يدعو إلى مقاومة الديكتاتورية الأسدية من خلال النضال السلمي، وعدم الجنوح إلى استخدام العنف ضد هذا النظام.
إن استخدام القوة من أي جهة كانت لفرض الرأي والواقع على الناس أو الشعوب، إنما هي عمل يتنافى مع العقل، وهذا اللاعقل تتسم به دول كبرى، أو تعمل بموجبه كثير من الأنظمة السياسية العالمية، وفي هذا السياق يجد جودت سعيد أن الأمم المتحدة التي تؤمن بالقوة، إنما تتناقض مع الرسالات السماوية التي نزلت على الرسل وكان جوهرها يقوم على العقل.
كان فهم الراحل جودت سعيد لمقولة "انتظار المهدي" الشيعية فهماً مفاجئاً ومختلفاً، وهذا ما قاله في المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، حيث قال في المحاضرة التي ألقاها هناك: أنا لا أؤمن بالمخلّص، فالمهدي جاء وانتهى القول في ذلك، معتبراً أن قيام منظومة الاتحاد الأوروبي هي من صنع العقل، وبالتالي هي تمثّل الخلاص الذي يبشر به المهدي المنتظر.
وفهمه للديمقراطية لم يأتِ من فراغ، فهذه الديمقراطية عَبْر تاريخها المتبدل كانت من صنع وابتكار الطبقات الاجتماعية الغنية، ولهذا يقول جودت سعيد: إن الأغنياء هم مَن صنعوا وابتكروا الديمقراطية.
جنوح فكر جودت سعيد نحو اللاعنف دفع كثيرين على تسميته "غاندي الإسلام"، هذه التسمية يستحقها هذا التنويري الذي قال عام 2013 في لقاء مع أورينت: (من يملك القنبلة النووية لا يؤمن بالعقل).
وحول جوهر فكر الراحل جودت سعيد يقول الباحث السوري أحمد الرمح: "انطلق جودت سعيد في فكرته حول اللاعنف من مفهوم المعجزات التي يؤمن بها جُلّ المسلمين إلى مفهوم السنن، وأن يرى أن الوحي توقف بموت النبي عليه الصلاة والسلام".
ويضيف الرمح: "انتهى عصر الغيب وبدأ عصر الشهادة، انتهى عصر المعجزات وبدأ عصر البحث العلمي، لذلك يرى في قضية اللاعنف أن الذي يأتي بالسيف يذهب بالسيف، والذي يَسفك الدماء ستُسفك دماؤه".
ويرى الرمح في فكر جودت سعيد فلسفة تقوم على عظيم رؤيته للإيمان، حيث يقول: "كان جودت سعيد يؤمن بأن كلمات الله التي تحكم الكون، ليست هي الموجودة في التوراة والإنجيل والقرآن؛ لأن كلمات التوراة والإنجيل والقرآن يمكن كتابتها بقلم أو قلمين، وبمحبرة أو بمحبرتين، فكيف تُفهم "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن تنفذ كلمات ربي".
إذاً إن فكر جودت سعيد يقوم على نقض فهمٍ يجهل جوهر الإسلام، وهو استخدام العقل، هذا الفكر قال فيه الشيخ سمير صالح: "رحل صاحب نظرية اللاعنف في الإسلام". وبرأي الشيخ صالح فإن جودت سعيد "مثّل صورة مشرقة للعلماء الذين يختارون ما عند الله على زهرة الحياة الدنيا، وهو لم يتوانَ عن الوقوف مع أبناء بلده في وجه العصابة المجرمة في سورية".
ويؤكد الشيخ سمير صالح: "أن الراحل جوت سعيد شارك في مظاهرات منادية برحيل رأس النظام".
وحول سعة رؤية المفكر الإسلامي العالمية يقول الدكتور أحمد طعمة رئيس الحكومة المؤقتة سابقاً: "كان هم جودت سعيد إنقاذ العالم الإسلامي، وكان يرى أن إنقاذ العالم الإسلامي لا يتمّ إلا بإنقاذ عقل أبنائه، والوسيلة إلى ذلك من خلال وضع السلاح جانباً، ونبذ العنف، وإعادة النظر في ميراثنا الفكري، والتأكيد على السببية، وإن إقرار الديمقراطية خير سبيل لحلّ مشكلاتنا السياسية".
أما الإعلامية المصرية سحر زكي فتقول: "إن المفكر الإسلامي جودت سعيد قال بالحرف الواحد انتهى عصر انتهاك الأنظمة لحقوق الشعوب". وترى زكي أن جودت سعيد استنهض عقل الإنسان وقدرته في مواجهة الظالمين. إن فكر الراحل جودت سعيد شكّل نقلة نوعية في مواجهة الخطاب الإسلامي التقليدي، الذي لم يفهم بعمق جوهر الإسلام من خلال كتاب الله القرآن الكريم. ولهذا نجد أن السوريين اجتمعوا في حزنهم المشترك حول وفاته، وفي هذا يقول المربي مصطفى البطران: "كان جودت سعيد قامة فكرية إسلامية، وهو تميّز وانفرد بفلسفته الإسلامية الراقية، واستطاع أن يبني فكره في أرض الخيال".
أما الشيخ محمود ضميم وهو من التيار السلفي فيقول في فكر جودت سعيد: "الشيخ جودت كان رجلاً مسالماً في دعوته إلى أبعد حد، ولديه أحادية مسالمة غير معقولة".
إن رحيل مفكرٍ بحجم الراحل جودت سعيد، سيترك بلا شكٍ فراغاً تنويرياً تحتاجه الأمة، في مرحلة صراعات كبرى، يتم فيها استبعاد العقل واللاعنف، وتحفيز غرائز القتل البعيدة عن جوهر العقل والدين، وعن الطريق الذي أوصى الله رسله باتباعه، وتعليم بني البشر معنى سيادة العقل، وأهمية استخدامه في استقرار البشرية وتطوُّرها.