المصدر: معهد الشرق الأوسط للدراسات
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: أصلان دوكاييف
من بين التطورات الجيوسياسية الأكثر لفتاً للانتباه في العقد الأخير كانت التفاعلات المعقدة والمحفوفة في بعض الأحيان بالمخاطر بين روسيا وتركيا، وهما خصمان إقليميان لهما تاريخ طويل من العداوة. فعندما أسقطت تركيا، في تشرين الثاني / نوفمبر 2015، مقاتلة روسية من طراز Su-24، قالت أنقرة إنها انتهكت المجال الجوي التركي بالقرب من الحدود السورية، أو لاحقاً، في أوائل عام 2020، عندما قتلت القوات المدعومة من روسيا 33 جندياً تركياً في منطقة خفض التصعيد شمال سورية”، خشي الكثيرون بصدق من “مواجهة عسكرية دولية مفتوحة”. هناك خلاف بين البلدين ليس فقط بشأن سورية، حيث لا يزالان يحتفظان بوجود عسكري ويدعمان أطرافاً متعارضة، ولكن أيضاً في عدد كبير من القضايا الأخرى، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، وبيع الأسلحة التركية المتطورة إلى كييف، والسيادة على القرم، والصراع الأذربيجاني الأرمني حول كاراباخ، والأزمة الليبية التي طال أمدها، على سبيل المثال لا الحصر. ومن المثير للدهشة، مع ذلك، أن جارتين من المفترض أن تكونا على خلاف بشأن خلافاتهما التي تبدو غير قابلة للتوفيق، تمكنتا من الحفاظ على علاقات ودّية إلى حدّ كبير- وحتى القيام بمحاولات لتوسيع علاقاتهما. عاماً بعد عام وشهراً بعد شهر، يتغلب الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره التركي، رجب طيب أردوغان، بإصرار على عقبة تِلْو الأخرى، على ما يبدو مدركين للمخاطر الاقتصادية والأمنية التي قد تحدث نتيجة لأي تراجُع متجدد في العلاقات بينهما.
ولم تخالف المحادثات الثنائية الأخيرة في سوتشي في 5 آب/ أغسطس – وهي المرة الثانية التي يلتقي فيها الرئيسان خلال شهر – هذا الاتجاه. وجاء في البيان المشترك الصادر بعد الاجتماع: “على الرغم من التحديات الإقليمية والعالمية المستمرة، أكد الزعيمان مجدداً على إرادتهما المشتركة لتعزيز العلاقات التركية الروسية”. واتفقت روسيا وتركيا، اللتان تحرصان دائماً على التقليل من خلافاتهما، على تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بينهما، وتسهيل توصيل الحبوب من الموانئ الأوكرانية، والحفاظ على وحدة أراضي سورية، و “العمل بالتنسيق في مكافحة جميع المنظمات الإرهابية.” ولكن مع ذلك، كانت هناك مؤشرات واضحة على أن خطط روسيا لمحادثات سوتشي تجاوزت التجارة الثنائية، أو صادرات الحبوب الأوكرانية، أو التعاون الأمني في سورية.
في يوم اجتماع سوتشي، أعلن رئيس جمهورية الشيشان وحليف بوتين المقرب رمضان قديروف، الذي أرسل في السابق قواته إلى كل من سورية وأوكرانيا، في رسالة على تطبيق تلغرام أنه “خلال المحادثات المباشرة بين فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، “تعرفت شخصياً على وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ورئيس جهاز المخابرات الوطنية التركي هاكان فيدان. أجرينا محادثة غير رسمية وذات مغزى ومثمرة، توصلنا خلالها إلى رأي مشترك حول الحاجة إلى إقامة تعاوُن وثيق بين تركيا وجمهورية الشيشان في مختلف القضايا”. وزعم قديروف أن “الضيوف الكرام” وجهوا إليه دعوة لزيارة بلادهم، فقبِلها. يبدو أن تواصُل قديروف مع القيادة التركية قد تم تحديده ليتزامن مع قمة أردوغان وبوتين، ومن المحتمل أن يكون قد أيده الرئيس الروسي نفسه. يجب أن يكون منطق المسؤولين الأتراك للاجتماع مع قديروف، بصرف النظر عن المجاملة الدبلوماسية، مرتبطاً بالعلاقة الخاصة للرجل الشيشاني القوي مع بوتين، والسمعة المتزايدة له كزعيم إقليمي يحظى بالنفوذ الأكبر في روسيا، وجهود تركيا لتأمين تعاوُن موسكو في هجوم أنقرة المخطط له في شمال سورية- على الرغم من أن جاويش أوغلو نفى أن تركيا بحاجة إلى “إذن من أي شخص للقيام بعمليات عسكرية في سورية”.
لم يعلّق جاويش أوغلو ولا فيدان على لقاء قديروف أو دعوته إلى تركيا. ولكن إذا كان هذا الادعاء صحيحاً، فإنه يشير إلى انقلاب كبير للرجل الشيشاني القوي وربما تراجُع تركيا عن بعض التزاماتها السابقة. في الوقت الذي تتطلع فيه أنقرة إلى توطيد روابطها مع روسيا، كان على أنقرة، على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية أو نحو ذلك، أن تصارع مصدر إزعاج كبير – حملة القتل المستهدف التي يشنها الكرملين على الأراضي التركية. ومن الجدير بالذكر أن الحملة ركزت في المقام الأول على المواطنين الروس من أصل شيشاني: القادة الميدانيون السابقون الذين قاتلوا ضد موسكو خلال حربَي الشيشان، أو النشطاء أو الشخصيات الإعلامية. وفي إحدى المرات، قام القَتَلَة بقتل مواطن تركي من أصول شيشانية، هو ميديت أونلو، الذي كان يمثل الانفصاليين الشيشان في تركيا. تم التحقيق بشكل قاطع في عدد قليل من هذه الهجمات، مما ترك العديد من الشيشانيين الذين يقيمون في البلاد يشعرون بالضعف والقلق بشأن مستقبلهم.
لكن في العام الماضي، حققت وكالة المخابرات الوطنية التركية انتصاراً مهماً عندما ألقت القبض على فرقة اغتيال صغيرة كانت، كما قالت الوكالة، تخطط لتصفية اثنين من المعارضين الشيشان على الأقل بناءً على أوامر قديروف. ووجهت تهمة “التجسس السياسي والعسكري” إلى أربعة روس وأوزبكي وأوكراني، كانوا يشكلون النواة الأساسية للمجموعة، بينما تم التعرف على آدم ديليمخانوف، النائب في مجلس النواب الروسي واليد اليمنى لـ “قديروف” بصفته المنسق الرئيسي لعملية القتل المخطط لها. بعد فترة وجيزة من الاعتقالات، سافر قديروف إلى تركيا فيما تكهنت المصادر الشيشانية المحلية بأن رحلته كانت محاولة أخيرة لتأمين إطلاق سراح القتلة البائسين، لكن هذه المهمة انتهت بالفشل. تنفست المجتمعات الشيشانية والقوقازية في تركيا الصعداء الجماعي في الأخبار والتأكيدات اللاحقة لـ “وكالة المخابرات الوطنية التركية” بأن تركيا ستظل “ملاذاً آمِناً لطالبي اللجوء والمعارضين السياسيين المستهدفين من قِبل أجهزة المخابرات في البلدان الأخرى”. ومع ذلك، إذا كانت الصفقة التي تفاخر بها قديروف في رسالته الأخيرة على تلغرام قد تم التوصل إليها بالفعل، فمن المرجح أن يعود القلق داخل تلك المجتمعات.
في اجتماعاته السابقة مع المسؤولين الأتراك، اشتكى الزعيم الشيشاني مراراً وتكراراً من أن تركيا تُؤوي “أفراداً ارتكبوا جرائم خطيرة في جمهورية الشيشان”، بل دعا أردوغان إلى تسليم عدد قليل من الإرهابيين المزعومين. ربما يعكس “التعاون الوثيق بين تركيا وجمهورية الشيشان” الذي يشير إليه قديروف في رسالته على التلغرام أمله في أن تصبح أنقرة أخيراً أكثر استجابة لطلباته بتسليم خصومه. ومع ذلك ليس لدى الشيشان الكثير لتقدمه في المقابل، خاصة أن الزعيم الشيشاني لم يكن له سوى دور جزئي في حملة الأجهزة الأمنية الروسية لاغتيال المنشقين الشيشان الذين يعيشون في الخارج. مهما كانت توقعات قديروف، يبدو من غير المرجح أن تبتعد تركيا عن سياستها طويلة الأمد المتمثلة في عدم تسليم الشيشانيين إلى روسيا.
قد يكون الحجم الإجمالي للجالية العرقية الشيشانية في تركيا في حدود الملايين، وتتألف بشكل أساسي من أحفاد أولئك الذين تم نفيهم من شمال القوقاز من خلال غزو القوات الروسية القيصرية في القرن التاسع عشر. ومع ذلك، منذ الحربين الشيشانية الأولى (1994-1996) والثانية (1999-2000)، أصبحت تركيا أيضاً موطناً لما يُقدَّر بـ 1500 لاجئ شيشاني. سافر العديد منهم إلى هناك للحصول على العلاج الطبي، بما في ذلك القائد السابق للمقاومة الشيشانية عبد الحكيم الشيشاني، أحد الأهداف المزعومة لقديروف. وصل الشيشاني إلى تركيا عام 2009، بعد إصابته بجروح خطيرة في القتال في الشيشان، لكنه لم يتمكن بعد ذلك من العودة إلى روسيا.
علاوة على ذلك، يمكن أن يؤدي عرض أنقرة الواضح لقديروف إلى رد فعل سلبي من أوكرانيا، حيث يُعتبر الزعيم الشيشاني مجرم حرب. كان قديروف قد دعا مراراً وتكراراً إلى غزو البلاد حتى قبل 24 شباط/ فبراير، وكما ذكر أعلاه، فقد أرسل بانتظام “كتائب المتطوعين” إلى خطوط الجبهة. كنصيحة لتركيا، التي تعمل على توسيع تعاوُنها العسكري التقني مع أوكرانيا لعدة سنوات حتى الآن، عليها أن تُظهر حساسية أكبر تجاه المشاعر العامة في أوكرانيا. فقد أثار حماس قديروف للحرب غضب الأوكرانيين لدرجة أن مجموعة من نواب البرلمان الأوكراني دعموا علانية انفصال الشيشان عن روسيا من خلال اقتراح مشروع قانون يدعو إلى الاعتراف بجمهورية الشيشان الانفصالية الشيشانية.
تواجه تلك المبادرة معركة شاقّة. لكنها لقيت ترحيباً من قِبل جميع جماعات المعارضة الشيشانية، وخاصة في تركيا، التي منحت اللجوء للعديد من الانفصاليين في شمال القوقاز، وحيث يتردد صدى فكرة حرية الشيشان حتى داخل المجتمع التركي الأوسع. قبل بضعة أشهر فقط، كشفت بلدة في شمال غرب تركيا النقاب عن حديقة سُميت على اسم دزخار دوداييف، زعيم استقلال الشيشان في التسعينيات، مما أثار “رفض” موسكو وأثار تهديداً من قديروف بـ “تخليد اسم مؤسس حزب العمال الكردستاني “عبدالله أوجلان” في غروزني. العديد من المواقع الأخرى في البلاد تحمل اسم دوداييف، الذي ينظر إليه الكثيرون في تركيا على أنه “القائد البطولي والأسطوري للنضال الشيشاني”، مما أثار استياء قديروف والكرملين.
في نهاية المطاف، قد لا يكون الترحيب بقدوم قديروف، الذي طالما فاخر بدوره غير الرسمي كمزود رئيسي للعنف في روسيا، والذي هاجم أنقرة مراراً بالتعبير عن مشاعره المعادية لها، والذي استُهدف من قِبل العديد من الدول بحظر السفر هو خطوة في صالح الجمهورية التركية نفسها.