تعتبر سورية بلداً يضم عدداً من الاثنيات التي تعايشت عَبْر تاريخ البلاد وتحديداً في مرحلة قيام الدولة السورية، وتضم الخريطة الاثنية السورية عدداً من المكونات، أهمها المكون العربي، الذي يشكل النسبة الساحقة من عدد السكان، إذ تضمّ هذه النسبة العربَ السُّنّةَ والعربَ العلويين والدروزَ والإسماعيليين والمسيحيين، يليها المكون الكردي والذي توجد غالبيته في محافظة الحسكة وحلب، ويقع على نسبة لا تتجاوز 9% من عدد السكان، أما المكون الاثني التركماني فهو يأتي بالمرتبة الثالثة، ويبلغ تعداده 1.5 مليون نسمة من إجمالي عدد السكان البالغ أكثر من 22 مليون نسمة قبل الثورة السورية عام 2011، أما باقي الاثنيات كالأرمن والسريان وتضم الآشوريين والكلدان فهم لا يشكلون نسبة أكثر من 2%.
هذه الفسيفساء الاثنية لم تستطع قبل مرحلة الثورة السورية أن تجد لها حقوقاً أو محددات ثقافية أو سياسية تختص بها، نتيجة طغيان الفكر البعثي القومي، الذي لم يحاول وضع الأمور الخاصة بكل المكونات في سياق تطوري متكامل، بحيث لا تحسّ المكونات غير العربية بالغبن الاثني.
الدساتير السابقة وآخِرها دستور بشار الأسد عام 2012 الذي نتج عن تعديلات على دستور والده حافظ الأسد عام 1971 لم يَرِدْ فيها ذكر عن حقوق المكونات، وهذا الواقع دفع بعض المكونات إلى تشكيل أحزاب سرية ذات طابع اثني محض، مما أضعف الرابطة الوطنية السورية، وجعل من المكون العربي وكأنه لا يعترف بالحقوق الثقافية والسياسية للمكونات الاثنية الأخرى.
إن الحَيْف السياسي لَحِقَ بجميع المكونات الاثنية وبطرق مختلفة، وكانت غاية النظام الاستبدادي ترسيخ الصراعات بين المكونات، ومنع أي نشاط سياسي أو ثقافي خارج مظلته السلطوية، ولذلك كانت هناك مظلومية لا يختص بها مكون محدد، إذ احتكر النظام منذ عهد البعث الذي بدأ بانقلاب آذار/ مارس عام 1963 السلطة ومن خلالها سيطر على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، ومنع أي اتجاهات فكرية أو سياسية لا تتفق معه من العمل.
هذه الحالة امتدت على مدى أكثر من أربعين عاماً إلى أن حدثت الثورة السورية عام 2011 .
لقد فجّرت الثورة السورية كل كوامن المكونات السورية وَفْق حاجاتها الاثنية انطلاقاً من مقدمات كل مكون على حدة، فالمكون العربي وهو المكون الذي يحوز على أعلى نسبة سكانية، كان يريد بناء دولة المؤسسات القانونية، دولة مدنية ديمقراطية تعددية، تتعامل مع كل المكونات الاثنية السورية على قاعدة المواطنة المتساوية، ولهذا، المشكلة بالنسبة لهم تكمن في تحقيق مواطنة متساوية على صُعُد السياسة والثقافة الاثنية كتعليم اللغة وتوفر النشاطات السياسية والثقافية ضِمن وحدة البلاد، إضافة إلى النهوض بخطط تنمية اقتصادية اجتماعية شاملة.
هذه النظرة الشاملة لم تَجِدْ صدًى لها لدى التعبير السياسي المهيمن على المكون الكردي، وهو حزب PYD، والذي وجد في حالة الثورة خلخلة أمنية وسياسية لمصلحته، ينفذ من خلالها إلى مخططه بإقامة منطقة حكم ذاتي وشريط جغرافي، يمتد من الحدود العراقية إلى البحر الأبيض المتوسط.
هذا الموقف المنعزل عن سياق الثورة السورية خلق شرخاً عميقاً لدى باقي المكونات وفي مقدمتها المكون العربي، الذي وقع على كاهله التصدي المباشر لعدوان النظام على الشعب.
لهذا يجب ردم الهُوَّة بين المكونات الاثنية من خلال الإصرار على تحقيق مربع الوطنية السورية، هذا المربع هو الحل الوحيد الممكن والآمِن للجميع، وهذا يتحقق من خلال دستور ينص صراحة على حقوق كل المكونات الاثنية السورية دون أفضلية أو تمييز.
الدستور الذي يتم العمل عليه في جنيف يجب أن يتجاوز حالة تجاهُل حقوق المكونات، ويركز على الهوية الوطنية السورية، فهذه الهوية جامعة وتُشكِّل انتماءً لكل المكونات، وهذا لا يتعارض مع انتماء سورية للحضارة العربية الإسلامية والتي تمتد لأكثر من ألف وأربعمئة عام.
إن تثبيت حقوق المكونات السورية في نصوص الدستور الجديد يسحب حالة الغبن الذي تحسّ به المكونات السورية باستثناء المكون العربي، وهذا ينطبق على المكون الكردي الذي تدفع قوى سياسية كردية إلى فرض رؤيتها الانعزالية على المكونات السورية الأخرى فيه، وإلى جعل هذا المكون وكأنه يرسم لاقتطاع جزء من الجغرافيا السورية لصالح حلم قومي، يتعدى حدود سورية إلى حدود دول أخرى مثل العراق وتركيا وإيران.
ولذلك يجب تصحيح الأمر، بحيث ينص الدستور الجديد على حقوق ثقافية لكل المكونات تتبادل التأثير فيما بينها لخلق ثقافة وطنية سورية متكاملة. كذلك يجب أن ينص الدستور على حق المكونات الاثنية السورية على تشكيل أحزابها السياسية على قاعدة الالتزام بالدستور، هذا الحق يجب أن يكون نابعاً من تعميق الوطنية السورية، وليس من خلق صراعات بين المكونات الاثنية.
الدستور الجديد الذي سيُولد قريباً، سيمنح كل أفراد المكونات حقوقاً متساوية في التعليم والعمل وتكافُؤ الفرص؛ لأنه يقوم على مبدأ توفُّر الكفاءة
وخارج الهيمنة الاثنية، وهذا الأمر يمنع تراكم الإحساس بالتجاهل أو الإحساس بالغبن الاثني.
لهذا من الطبيعي أن يكون هناك في اللجنة الدستورية ممثلون عن كل المكونات الاثنية السورية، كي تتم التوافقات على تغليب مربع الوطنية السورية على حساب مصالح المكونات الخاصة.
إن إقرار الدستور الجديد بحقوق وواجبات متساوية في دولة قاعدتها المواطنة المتساوية سيُذوّب التعصبَ للمكون أي مكون، ويجعل منه حلقة تتكامل مع باقي المكونات السورية، بحيث يصير رافداً للوطنية السورية التي تشكل حالة اعتزاز وطني لكل السوريين.
إن المكونات السورية جميعها معنية بخلق قاعدة انتماء للوطنية، وهذه الحالة تتطلب شفافية وعلنية في تحديد الموقف من هذه القاعدة، والعمل على ترسيخ قِيَمها.
إن دستور سورية القادم الجديد، ينبغي أن يفصح بصورة شفافة عن حقوق المكونات الثقافية والسياسية والاجتماعية، ضِمن نظام سياسي لامركزي إداري، يمنح هذه المكونات فرصة تطوير مناطقها مما يحقِّق الاستقرارَ الوطنيَّ.
الجميع ينتظر خَلْق توازُنٍ ومُساوَاةٍ في الحقوق لكل المكونات، وهذا يتطلب العملَ منذ الآن على هذه المطالب الوطنية.