ترجمة:عبد الحميد فحام
من سلسلة تلال معروفة محلياً باسم جبل "الباغوز"، في منطقة من بين المناطق الأكثر إثارة للجدل في الشرق الأوسط تقع واحة على شكل بقعة خضراء على أُفق صحراوي يمتد من ضفاف نهر الفرات إلى منطقة مترامية الأطراف من المنازل الجديدة المتجاورة وغير المُنَسَّقة.
الحركة قليلة خلال النهار الحار وفي الليل يمكن للمرء أن يسمع صوت جريان النهر الذي غذَّى العراق وشرق سورية لعصور، إنها مدينة "البوكمال"، حيث أخذ المُهربون وعناصر الميليشيات والميليشيات الوكيلة والمُرتزقة وكل من شارك في المعارك من جيوش الدول حِصصاً في تخريب المكان عندما تمت هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية هنا قبل ثلاث سنوات.
وقد تركت الاضطرابات المتداخلة الكثير من أجزاء هذه المدينة التابعة لمحافظة دير الزور مدمَّرة وغير قابلة للترميم. ولا يزال العديد من السكان في عداد المفقودين أو النازحين، ولا تزال الحرب ضد جماعة تنظيم الدولة مُحتدمة.
فعلى الطرق السريعة الرئيسية، تفسح الجرارات والصهاريج الطريق لقوافل من شاحنات وناقلات العتاد العسكري القتالية الأمريكية والروسية. وتُحلّق طائرات هليكوبتر هجومية فرنسية وأمريكية في الأجواء ولا تزال قوات التحالف الخاصة تحتفظ بقواعدها.
في البوكمال، هناك مزيج من اللاعبين والمتنافسين على النفوذ، ولعل من أكثرهم قوة: الميليشيات الشيعية من العراق وإيران ولبنان -ومن بينها حزب الله- وكذلك المُرتزقة الروس ورجال القبائل السُّنية وجيش النظام السوري، بينما الميليشيات الكردية تُراقب من على امتداد النهر.
لقد أصبحت هذه المدينة الحدودية الجيب الأكثر إستراتيجية في المنطقة فمن يُؤمّن العبور إليها يكون له كلمة في الأحداث على جانبَيْ نهر الفرات. وقال مقاتل كردي على التلال فوق "الباغوز": "لهذا السبب نحن هنا، نراقب المشهد، فكل تلك الأرض التي أمامنا سيتمّ التصارع عليها لسنوات قادمة."
في أواخر آب (أغسطس)، استيقظ سكان المنطقة ليلاً بسبب دَوِيّ الانفجارات على مسافة ليست ببعيدة، وقد قال قائد عسكري آخر: "كُنا نسمع صوت الطائرات، لكنها لم تستمر لوقت طويل وقد عَلِمنا لاحقاً أنهم كانوا إسرائيليين، فضرباتهم مختلفة عن الضربات الأمريكية ".
على مدى السنوات الثلاث الماضية، أصابت الضربات الجوية بانتظام "البوكمال" ومداخلها، وكذلك بلدة "القائم" الواقعة على الحدود العراقية. والأهداف هي عبارة عن مواقع مرتبطة بميليشيات مدعومة من إيران تستخدم المدينة لنقل الأسلحة والأموال من العراق إلى سورية. وقد أصبحت البوكمال الطريق الرئيسي لمشروع إيراني عمره ثلاثة عقود يهدف إلى تأمين قوس نفوذ من العراق عَبْر سورية إلى البحر الأبيض المتوسط.
كان إنشاء مثل هذا الوصول -الذي من شأنه أن يُعزز أيضاً جسراً في سورية لحزب الله (الميليشيا اللبنانية)- هدفاً إستراتيجياً للجنرال الإيراني قاسم سليماني وحليفه أبي مهدي المهندس، اللذين تمّ اغتيالهما في غارة جوية أمريكية في بغداد في أوائل عام 2020.
وقد تمّ الإبلاغ عن خطط إيران لإنشاء الممر لأول مرة من قِبل "الأوبزرفر" في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2016، ومنذ ذلك الحين تكثّفت الجهود في السنوات الخمس، خاصة بعد وفاة سليماني. وقال الضابط الكردي: "الضربات الجوية مُنتظمة إلى حد ما، إنها قصيرة للغاية وعادة ما تكون ضارّة للغاية. كلّ جهة تعرف بالضبط الهدف الذي تريد أن تصيبه".
وقد تم إصابة خمسة أشخاص في هجوم يُشتبه أنه بطائرة بدون طيار إسرائيلية على المدينة في 8 تشرين الأول/ أكتوبر. وقد أسفر هجوم أكثر أهمية في 21 أيلول/ سبتمبر عن مقتل خمسة أشخاص. وبالعودة إلى كانون الثاني/ يناير، قُتل العشرات في أكبر الهجمات حتى الآن. وقال المقاتل الكردي وهو يحدّق بمنظار باتجاه موقع عسكري تابع للنظام السوري: "إنهم لا يزعجوننا أبداً". لست متأكداً من أن ذلك يزعج الإيرانيين أيضاً. لا تزال "البوكمال" مُنشغِلة للغاية. هناك الكثير من عمليات التهريب عَبْر القائم، وبعضها يعبر النهر في قوارب".
ويقول سكان "البوكمال": إن البلدة تغيّرت بشكل كبير منذ الإطاحة بتنظيم الدولة الإسلامية. وقال العامل خالد سهيل: "عندما تحرّك الشيعة، كان هناك نفس القدر من الخوف". فلدى الإيرانيين الكثير من الأموال لإنفاقها وقد أثّروا في القبائل. لكنّهم ليسوا الأسوأ، إن قوات الحشد الشعبي (قوات الحشد الشعبي، التي نشأت في 2014 لمحاربة داعش) هي التي تُخيف الجميعَ. إنهم شيعة وطائفيون للغاية ".
أكّد ثلاثة من سكان البوكمال الآخرين اعتقاد المسؤولين الأوروبيين بأن الضابط الإيراني، الذي يستخدم الاسم الحركي الحاج عسكر، هو شخصية بارزة. فالميليشيا التي يقودها -"اللواء 47" من كتائب حزب الله، الوكيل العراقي الموالي لإيران- تسيطر على معظم المدينة، لكنها أبعدت السكان وزعماء القبائل.
ينحدر معظم المجندين المحليين في اللواء 47 من قبيلتَي "المشهد" و"الجغيفي". وقد قال أحد سكان البوكمال: "إنهم مَن باعوا البلدة لإيران". "وقد فعلوا ذلك بثمن بَخْس. إنهم يساعدون في التهريب. هذا لن ينتهي على خير".
وقال ساكن آخر: "إنهم يشقّون طريقهم إلى المنطقة". هناك أناس يُصلُّون مثل الشيعة. ما يحدث هناك هو تغيير مقصود وليس فقط المنطقة ولكن المدينة نفسها.
هناك مدارس تُعلِّم التاريخ الفارسي وتاريخ كبار المشايخ الشيعة الذين لهم تأثير على الطائفة. إنهم أقوى من جيش بشار، الذي يقف مكتوف الأيدي بينما تضع إيران وأصدقاؤها خُطَطهم الخاصة".
عَبْر نهر الفرات في "الباغوز"، حيث كانت آخِر معارك داعش في أوائل عام 2019، يقوم مقاتلون أكراد من قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة بدوريات على ضفاف النهر، وهم يراقبون الجنود السوريين على الضفة المقابلة من الجسر المُنهار الذي كان يربط بين البلدات.
قال أحد هؤلاء المقاتلين: "أسقطته داعش لمنع الآخرين من مهاجمتهم". ثم حاولوا بناء جسر خاص بهم. وأشار إلى كومة من الصخور في منتصف الطريق عَبْر المياه البطيئة الحركة وأضاف: "عندما تأتي مياه الأمطار ستجرف الباقي. نحن نرى النظام كل يوم. لا يمكنهم فعل أي شيء من جانبهم ولا يمكننا فعل شيء من جانبنا ".
تشهد "الباغوز" الآن صامتةً الصراعَ على النفوذ في الجوار، وقد عاد المزارعون، وتتلألأ محاصيل عباد الشمس في نسيم المساء، وتتقاسم ضفة النهر صفوفاً من أشجار الرمان.
وتابع المقاتل حديثه: "الكل قاتَل على هذه الأرض، ولقد مات ما لا يقل عن 5000 شخص من داعش في البلدة الواقعة خلفنا (الباغوز). كثيراً ما أتساءل لماذا حدث كل هذا القتال هنا؟ كيف أصبح هذا الجزء من الشرق الأوسط مُهمّاً جدّاً في التاريخ؟ وكيف سيبدو بعد عامين؟ ."
ويروي كل مَن شهد القتال والمعارك -وخاصة في الأعوام بين 2018 و 2019- أن الجميع يعتبرون أنها أرضهم، والآخرون لهم رأي آخر في ذلك، ومَن يسكن المنطقة الآن مؤقتاً يقول: إنه "لا يرى نهاية للقتال، إنها أرض ملعونة".