أبدع “غابرييل غارسيا ماركيز” في تناول جملة من التناقضات، فالحب والموت، والحزن والفرح، والضحك والبكاء، والهزيمة والفوز اجتمعت في رواية واحدة عنوانها: “الحب في زمن الكوليرا”، لتُعَدّ رواية من أهم روايات القرن العشرين.
لا تزال رواية غارسيا ماركيز موجودة على رفوف المكتبات وتتمتع بطلب مرتفع رغم مرور أكثر من 35 عاماً على صدورها، لتحافظ على صدارتها في رفوف المكتبات، كما حافظ كل من الحب والكوليرا على صدارتهما في المجتمع البشري في معظم الأوقات.
في سبتمبر 2022 أُعلن عن وفاة 14 شخصاً في سورية بسبب وباء الكوليرا الذي راح ينتشر في أرجاء البلاد، حيث يُتوقع أن الوباء أصاب المئات حتى الآن رغم أن التصريحات الرسمية تشير إلى أقل من 200 إصابة، وفي 2015 حذرت منظمة الصحة العالمية من انتشار وباء الكوليرا خاصة في ريف دمشق المحاصر ومخيمات الشمال السوري.
تأتي عودة الوباء إلى سورية على خلفية تراجُع مستوى البِنْية التحتية المتعلقة بالمياه والصرف الصحي، والتي تساهم بشكل رئيس بانتشار الأوبئة والأمراض عَبْر تجمُّعات صرف صحي قريبة من التجمعات السكنية، ومستوى مياه أقل للأفراد الذين بالكاد يحصلون على المياه الكافية للشرب. تُعَدّ الحرب مساهماً رئيسياً في صناعة الكوليرا في سورية، حيث دمرت الحرب حتى اللحظة عدداً واسعاً من محطات المياه، ففي منطقة تل أبيض شمال البلاد تعمل 21% من وحدات المياه الموجودة فيها دون توافُر شروط التعقيم المناسبة في الوحدات العاملة، وفي مدينة عفرين تعمل 37% من وحدات المياه الكلية وفي أريحا تعمل 27% وحَسْب من وحدات المياه، ويتوقع أن نصيب الفرد من الماء انخفض إلى أقل من 50 لتراً يومياً وهو نصف الموصى به عالمياً، وفي بعض المجتمعات المحلية كمدينة الباب يتوقع أن نصيب الفرد انخفض إلى أقل من 35 لتراً.
في 2020 انتشر وباء كورونا المستجد (كوفيد-19) في معظم مناطق سورية، ودعت المنظمات المحلية والدولية لاتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على صحة السكان، من خلال تأمين المستلزمات اللازمة للتعقيم، ومن الملاحظ أن استجابة السكان لإجراءات الحظر وبروتوكولات السلامة كانت أقل مما هو متوقع بكثير رغم التحذيرات والحملات التي حصلت، ومع انتشار وباء الكوليرا في 2022 تجد أن السكان في سورية حافظوا على مستوى استجابتهم المنخفضة للإجراءات المطلوبة، ويعود هذا التراجع بتطبيق الإجراءات من قِبل السكان إلى ثنائية “الموت بالمسبب الأول أو الموت بالمسبب الثاني”، فالموت من العطش قد يكون أكثر احتمالاً بكثير من الموت بالكوليرا، والموت من القصف ذو احتمال أكبر بكثير من الموت نتيجة عدم اتخاذ إجراءات التباعد الاجتماعي، كِلاهما يُعَدّ موتاً ولكن لكل موت طريقة وأسلوب، واحتمالات الموت هي حسابات تمر على خاطر السوريين كبيرهم وصغيرهم في هذه الأيام، سواءً وجدوا داخل سورية أو خارجها.
لقد قزمت الحرب في سورية من قيمة الوباء، لقد أعادته إلى حقيقته كجرثومة صغيرة ذات حجم مجهري لا ترى بالعين المجردة ولا يُعتدّ بها تحت المجهر، فهدير الطائرات ودَوِيّ المدافع وصفير الرصاص أكثر لحظاً وأكبر أثراً في نفوس السوريين.
ليس الكوليرا هو الوباء الوحيد الذي يضرب السوريين هذه الأيام، فالكراهية التي باتت محل تباهٍ في المجتمعات المضيفة، والعداء الذي استفحل في نفوس السياسيين قاصدين توريثه للناخبين في سبيل حصاد أصواتهم؛ صار أكثر انتشاراً، فلبنان تعلن حكومته عن خطة لترحيل السوريين بالاتفاق مع مَن هجَّرهم وقتلهم ودمر بناهم التحتية، ولا يزال ينتظرهم فاتحاً أبواب سجونه بدلاً من أبواب مؤسساته الخدمية، وفي تركيا تتنافس الأحزاب على خطة التخلص من السوريين تارةً بدعوتهم للرحيل إلى سورية، وتارةً بدفعهم نحو الموت في البحر عَبْر قوارب يتم تسهيل حركتها نحو أوربا لتواجه مصيراً مأساوياً لا يوجد فيه قصة حب بين عاشقين بل ذكريات وطن.
الحرب في زمن الكوليرا تقزم من الوباء، فلا صوت يعلو فوق صوت الرصاص، وربما ما كان يسلينا في رواية “غابرييل مارسيا ماركيز” هي قصة الحب التي ملأت كل أجزاء الرواية، وجعلتنا أكثر أملاً رغم انتشار أوبئة مجتمعية وصحية ونفسية في أحداث الرواية، ولكن في حالة سورية ما من حبٍّ يسلينا، بل كرهٌ، وأصوات رصاص؛ تجعل من الموت حدثاً اعتيادياً عابراً كدخول الحمام أو تناوُل الطعام، وفي زمن الأحداث التي تمرّ على السوريين نتطلع إلى قصة حبٍّ تقودنا إلى السكينة في النهاية، وتقود البلادَ إلى الهدوء، والعالمَ إلى الاطمئنان.