في شهر تشرين الثاني/ فبراير من كل عام؛ تبدأ عروض الأسعار في جميع المحالّ التجارية، وتُعَدّ المناسبة أحد أكبر مواسم الخصومات والعروض والتنزيلات السنوية في العالم.
يعود أصل تسمية الجمعة السوداء إلى انهيار اقتصادي كبير حصل في الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1869، وكان الانهيار في نهاية الأسبوع مما جعله يُعرَف بيوم الجمعة الأسود أو “الجمعة السوداء”، وصار التجار بعدها يتخذون إجراءاتٍ احتياطيةً لمثل هذا اليوم عَبْر تقديم خصوماتٍ في سبيل تجنب خسائرَ محتملةٍ على وقع القانون الاقتصادي الذي يقول: إن “التاريخ يُعيد نفسه”. ولكن هناك رواية أخرى لسبب التسمية قد تكون أكثر ترجيحاً؛ وهي تتعلق بتسجيل الدفاتر المحاسبية، التي كانت تكتب فيها الأرباح باللون الأسود، والخسائر بالأحمر، كما هو الحال بالكشوف البنكية التي تكتب رصيدك باللون الأسود، وفي حالة السحب فوق الرصيد تكتب الرقم لك بالأحمر، في إطار ما يطلق عليه الأفراد “I am in red” أو أنا بالأحمر، حيث للألوان دلالة عميقة في عالم الأعمال، كما هو الأمر في التواقيع، وألوان الأختام وغير ذلك.
في هذا اليوم، يتوقع معظم التجار أن تسجل أرباحهم بالأسود، حيث يترافق اليوم مع اقتراب نهاية السنة الميلادية، والتي تُعَدّ نهاية سنةٍ ماليةٍ لمعظم المؤسسات، والتي تقوم بإجراء عمليات الجرد منذ مطلع كانون الأول/ ديسمبر، معلنة نهاية النشاط التجاري، أو في النصف الثاني منه على أبعد تقدير.
ومن الملاحظ أن شهر تشرين الثاني/ نوفمبر يحمل الكثير من الأعياد في الدول الغربية، وهي أعيادٌ تقليدية، وأخرى مبتكرة، وبعضها تُعَدُّ أعياداً دينية، ولا شك أن هذه الأعياد محترمة ومقدرة عند جميع المؤمنين بها، ولكننا لا نستطيع أن ننظر لها كاقتصاديين؛ إلا من طرف ما تحققه للمؤسسات والمصانع، وما تضخه من أموال في النشاط الاقتصادي، ولعله هدفٌ رئيسي من أهداف إقامة بعض هذه الأعياد.
بالعودة للجمعة السوداء؛ فإن البائعين يُجرون عمليات تصفية على السلع المتبقية لديهم في نهاية العام، حيث إن التاجر يرغب بتخفيض بضاعة آخِر المدة قدر الإمكان، فالكاش “النقود في الصندوق” هو الأهم بالنسبة له، خاصة مع أنواع البضائع التي تتغير بتغير الموسم، وتصبح قديمة الموديل أو النوع، واليوم معظم السلع مثل الملابس والأحذية، وحتى القطع الإلكترونية والألعاب؛ تتوافر منها نسخ جديدة مع بداية كل عام، مما يجعل مصلحة هؤلاء البائعين بالتخلص منها، حتى لو بتخفيضات كبيرة.
البعض الآخر من البائعين يجد المناسبة هدفاً لزيادة المبيعات، ويحجز بضائع خاصة لهذه المناسبة، أي أنه يجد أنها فرصة لتحقيق رقم مبيعات جديد وبالتالي مزيد من الأرباح، ويقدم عروضاً شكلية في معظمها، عَبْر رفع سعر السلعة الحقيقي وإجراء الخصم من السعر الجديد، هكذا يظن المشتري أن التنزيلات مغرية على هذه السلع. والعروض الوهمية كبيرة في هذه المناسبة، بل تكاد تجد أن الآونة الأخيرة باتت تخلو من عروض حقيقية.
المشترون يتجهزون لهذا اليوم قبل مدة طويلة، وبعضهم يدّخر لمثل هذا اليوم، وتجد أن الأسواق والمحالّ تكتظ بالمشترين الباحثين عن عروض، منفقين أموالهم “وتحويشة السنة” في يوم أو يومين، حيث ترى أن الفواتير تصبح أطول من أصحابها من حيث عدد السلع، وأكبر من إمكانياتهم من حيث رقم الشراء النهائي.
مع نهاية الموسم، تغص بعض المنازل بالسلع التي تتوزع على مواسم السنة المقبلة، وبعضها لا لزوم له إطلاقاً، بل يتم شراؤه فقط لأن “عليه عرضاً”، أو لأنه فرصة لا يمكن تفويتها، مع هذا فهو له ثمن، وقد يكون ثمنه مرتفعاً كذلك، لتتحمل الأسرة مزيداً من الأعباء والنفقات على أشياء كمالية أو غير ضرورية على أقل تقدير.
في نهاية الموسم؛ يحصد البائعون أرباحهم التي ستُسجل بالأسود، متخطين أزمة الجمعة السوداء التي مرّ عليها أكثر من قرنٍ ونصف. وعلى جانبٍ آخر يمرّ الموسم على أرباب المنازل باللون الأسود كذلك، فهم دفعوا “اللي فوقهم واللي تحتهم” في أيام معدودات، وسواد أيامهم هذا لا يأتي بسبب تسجيل أرباح، أو تجنب خسائر، بل بسبب الأيام السوداء التي تلي هذه الجمعة، والتي سيضطرون فيها للاستدانة أو التحسر على الإنفاق الكبير الذي قامت به أُسَرهم خلال مدة قصيرة. ينظر أرباب المنازل إلى “ضياع جزء من مدخراتهم السنوية” أمام أعينهم، مقابل عروض سوداء عليهم، وسوداء على البائعين بالربح، وما بين أسود الاستهلاك وأسود المبيعات فرقٌ كبير في الألوان يراه ذو البصيرة بشكل واضح.