نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
لم تعتد منطقة الجسور العشرة في حي القويسمة جنوب شرقي العاصمة الأردنية عمّان، أن تكون منصّةً لمحاولات الانتحار، لا الحقيقية ولا الاستعراضية، كما حدث أول أيام عيد الفطر أمس عندما أنقذ رجلا أمن رجلاً صعد فوق (جسر الجسور) مهدداً بالانتحار بحسب ما يوضح فيديو جرى تداوله بكثرة وانتشر بسرعة أول أيام عيد الفطر المبارك.
ويعود بناء الجسور العشرة إلى 120 عاماً ماضية عندما شيّد الأتراك العثمانيون جسراً مكوناً من عشر قناطر تعلوها الأقواس كي يتسنى لسكة الحديد العثمانية الحجازية أن تواصل طريقها مروراً بعمّان ومعان وصولاً إلى المدينة المنورة في السعودية (التي كان اسمها الحجاز في ذلك الزمان عام 1902).
منظر ضخم ومهيب وتاريخي لتلك الجسور العشرة العثمانية في منطقة وادي الرِّمم التابعة للقويسمة في شرق عمان، ما بين جبليّ المنارة والتاج.
وشعبياً درج الناس على تسمية الجسر بالجسور العشرة نسبة إلى قناطره وأقواسه، وما هو، في الحقيقة، سوى جسر واحد بناه العثمانيون بمساعدة هندسية ألمانية وسواعد بناء محلية.
الجسر أصبح معلماً أثرياً، ولكنه ما يزال يصلح للاستعمال ومرور القطارات من فوقه حيث سكة الحديد التي تصل ما بين مركز الانطلاق من منطقة المحطة إلى جنوب عمّان وبالعكس.
والقطار الذي يلاحظه بعض الناس في تلك المناطق المحيطة بهذا الجسر، يلفت انتباههم أنه ما يزال في الأردن قطارات لها صفيرها ودخانها وشكلها الطويل بالقاطرات، فتدخل في نفس المشاهد السرور خصوصاً الأطفال الذين يشاهدون القطار بشكل حيٍّ ومباشر.
في العام 1920 جاء الأمير عبدالله الأول ابن الحسين (الملك المؤسس) على رأس قوة عسكرية من المدينة المنورة إلى معان بواسطة خط السكة الحديدي الحجازي، ثم من معان إلى عمّان، وكان وجود محطة سكة الحديد في عمان سبباً من أسباب اختيار الأمير عبدالله، في ذلك الوقت، لمدينة عمّان عاصمة لإمارة شرق الأردن.
وفي الحرب العالمية الأولى أصبحت السكة واسطة نقل مهمة للجنود الأتراك وللذخائر إلى جبهات القتال، وذلك لتعزيز القوات المرابطة في الحجاز وعمان والسلط ووادي الأردن.
وقد لعب القطار في الأردن قديماً دوراً مهماً في نقل البضائع والركاب والحجاج، إلا أنه، وفي الآونة الأخيرة، صار يؤدي دوراً خاصاً في نقل الفوسفات من مناطق إنتاجه في الجنوب إلى مراكز التصدير في منطقة العقبة، وبقي يقوم برحلات بسيطة ما بين محطات القطار في جنوب الأردن كرحلات سياحية جميلة.
يقول المؤرخ الأردني سليمان الموسى (1919-2008): “في اليوم السادس من آب/أغسطس سنة 1902 تم إنشاء سكة القطار بين دمشق وعمّان، وبعد ذلك بسنة وصل الخط إلى معان. وقد بنى النفق بجوار عمّان وجميع القناطر التي يمر عليها الخط مسافة خمسة كيلومترات متعهدون إيطاليون، وأماتت الكوليرا عام 1902 أكثر من 400 ممن كانوا يعملون في هذا الخط بالقرب من عمّان.
ثم إن وجود الشراكسة قرب محطة سكة الحديد في عمّان شّجع بعض أهالي السلط والقرى المجاورة لها كي يسكنوا في عمّان، ويذكر أحد الذين زاروا عمّان سنة 1912 أن سكانها في ذلك الوقت لم يكونوا يتعدّون 1800 نسمة فقط.
في الحرب العالمية الأولى رأت القوات البريطانية وجوب تدمير النفق الذي بجوار محطة عمّان من الجهة الجنوبية وقنطرتها الكبيرة، فأرسلوا لتنفيذ ذلك الفرقة الهندية الستين وفرق الفرسان النيوزيلنديين والأستراليين ولواء الهجانة الامبراطوري ولواء المدفعية الجبلية ولواء من السيارات المصفحة ومدفعاً ضخماً.
وفي 27 آذار/ مارس سنة 1918 وصل النيوزلنديون إلى المحطة، كما اقترب لواء الهجّانة من الغرب، وأطبق الاستراليون من الشمال ونسفوا قنطرة صغيرة هناك، وفي اليوم الثاني قدم من السلط لواء الفرقة الستين ومعه المدافع الجبلية، ووصل تقدمهم إلى جبل عمّان الشمالي.
وفي 29 آذار/ مارس وصل المدد من الإنجليز فساعدهم على دحر الجيش التركي، ولم يبَق أمامهم إلا أن يدخلوا عمّان، لكنهم أيقنوا أن خسائرهم ستكون فادحة، إذا واصلوا الهجوم، فتقهقروا إلى الضفة الغربية، وأخذوا يرقبون الفرصة المناسبة.
وفي 22 أيلول/ سبتمبر سنة 1918، انهارت الجبهة التركية في لواء نابلس، ولحقهم الإنجليز إلى الغور وتسلقوا من الشونة ووادي شعيب، حتى محطة عمّان، وبقي الجيش البريطاني في البلاد المحتلة حتى غادروها في كانون الأول/ ديسمبر 1919، عندما أُعلنت شرقي الأردن جزءاً من المملكة العربية السورية التي كان يحكمها الأمير فيصل بن الحسين، حيث ترمز نجمتها السباعية إلى خمس محافظات في سورية ومحافظتي البلقاء والكرك في شرقي الأردن.
كاتب الذكريات د. موفق خزنة كاتبي يستعيد في كتابه “محطة عمّان” ذكريات المحطة وقطاراتها وخط سيرها من عمّان إلى معان، ويقول إن الخط قبل الانطلاق بساعة كان يشهد، أربعينيات القرن الماضي، تجمّع أعداد كبيرة من المسافرين والمودّعين في الساحة الداخلية للمحطة. كاتبي (وهو بالمناسبة من أصل سوري) يتطرق في كتابه إلى أسعار المقصورات وصالونات الركاب والأغراض المسموح حملها في القطار وأماكن وضعها، ويؤكد أن المحطة كانت مفعمة بالحيوية وحركة الركاب والناس من مستقبلين ومودعين يجلسون في مقهى المحطة، خصوصاً في الساعة التي تسبق انطلاق القطار.
يقول كاتبي: “قبل الموعد المحدد يضرب جرس المحطة ثلاث ضربات ليذهب المسافرون الذين ما يزالون على الرصيف إلى غرفهم في القطار. ثم يضرب الجرس ضربتين لينزل المودعون من القطار، ثم يضرب الجرس ضربة واحدة، وهذا يعني أنه يجب إغلاق الأبواب ومنع الصعود والهبوط إلا للضرورة القصوى. قبل ذلك يعطي مأمور المحطة إذن الحركة (شارة خضراء) إلى مأمور القطار، وهذا يعني أن الخط من عمّان إلى محطة القصر في (أمّ الحيران) سالك تماماً، ولا يوجد قطار، أو ترولّي، أو عربة عمّال في الطريق”.
ظل قطار الحجاز (وحتى بعد مغادرة العثمانيين، وقبل أن ينسف الصهاينة عام 1948 محطة الحمّة السورية) يواصل سيره على مرّ سنوات طويلة، تحيطه الجبال والسهول، يعبر أنفاقاً ويمرّ فوق جسور، يأتي من سورية، يذهب إلى حيفا، سمخ في طريقه، وكذا بحيرة طبريا، ونهر اليرموك، والقطرانة، والجيزة، وصولاً إلى الحجاز.
يروي كاتبي في كتابه حادثة طريفة مفادها أن سيارة الأمير عبد الله الأول وصلت ذات يوم المحطة ومقصها مغلق بانتظار دخول القطار الآتي من معان، ولم يكن الأمير في ذلك الزمن يسير بموكب رسمي إلا في الاحتفالات، فكان موكبه الخاص مكوّن منه ومن السائق وضابط يجلس بجانب السائق فقط، عندها نزل الضابط وأمر عبد الله المعاني (مأمور المحطة) أن يفتح الطريق للأمير، لكن المأمور المعاني رفض وتشاجر مع الضابط وتركه وذهب إلى سيارة الأمير وحيّاه قائلاً: “نحن يا مولاي أحرص على حياتك من الضابط الذي معك، فأنت مولانا وسيدنا وأميرنا، وحياتك أغلى من حياتنا”. فما كان من الأمير عبدلله الأول إلا أن ابتسم وشكر ذلك الموظف قائلاً: “لا تفتح الباب عندما يكون مغلقاً لأحد، ولو كنت أنا الأمير عبدلله بن الحسين”.
ويقال إنه أنعم عليه، وصارت أشبه بقانون، إذ كلما أتى مسؤول يطلب منه فتح المقص يقول له: “لست أحسن من أمير البلاد الذي أعطاني تعليماته أن لا أفتح المقص إلا بعد مرور القطار”.
بهندسةٍ إسلاميةٍ جميلة، وأقواس عنيدة، وقناطر باسقة، وحجارة نابلسية صلبة، تواصل الجسور العشرة تجلّيها بوصفها شاهداً على امبراطورية حكمت لخمسة قرون ممتدة، بلاداً وقارات، وبحاراً وأنهراً وبحيرات ومحيطات.