ترتبط فكرة انتصار الثورة السورية ذهنياً بتحقيق أهدافها التي رفعتها من اليوم الأول في 15 آذار 2011، والمتمثلة بإسقاط النظام وتحقيق التحول الديمقراطي المفضي لإنتاج نظام جديد. لكن بالرغم من بقاء جذوة الثورة وتضحياتها وصمودها، ورفض قطاع واسع من الشعب السوري بقاء النظام، وحصار النظام سياسياً واقتصادياً، لم تحقق الثورة أهدافها حتى الآن، وهو ما يدفعنا لافتكاك معنى الانتصار عن الصمود، فالصمود الأسطوري لهذه الثورة المتروكة وإن كان لا يعطيها معنى الانتصار لكنه بلا شك ينفي عنها معنى الهزيمة، وإن كان الانتصار مرتبطاً بهدف واحد هو إسقاط النظام فهو متحقق لأن النظام السوري منذ استجلب التدخل الروسي في عام 2015، كان بحكم المنتهي وتحول إلى مجرد جثة محنطة وظيفتها إضفاء الشرعية على الاحتلالين الإيراني والروسي، وإن كان الانتصار مرتبطاً بالشرط الثاني، وهو بناء نظام مدني ديمقراطي وهو ما لم يتحقق حتى الآن، لا يعني أن النصر لن يتحقق في المستقبل في حال تغيرت المعادلة المحلية والإقليمية والدولية الحاكمة للصراع والمتسببة في بقاء الهيكل العظمي للنظام الأسدي.
وبالعودة لأسباب تأخر النصر الذي نجزم بتحققه، بمعنى البناء للنظام الجديد، رغم صمودها لأكثر من عقد من الزمان، يمكن أن نلاحظ العديد من الأسباب الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية.
ففي الحالة الاجتماعية لم تحقق الثورة السورية رغم سعة انتشارها حالة من الإجماع ضمن العديد من الطوائف والأقليات التي آثرت في معظمها أن تبقى تحت رحمة الأسد على أن تنخرط في ثورة قد تنتهي بهم إلى المجهول السياسي. كما أن الشرائح الاجتماعية التي انحازت للنظام ليس سياسياً فقط وإنما عسكرياً أيضاً كان الممهد لإدخال الصراع فيما يسمى بالحرب الأهلية.
إضافة لوجود الانشقاقات العامودية داخل صف الثوار والمعارضة حول العديد من القضايا ومنها خيار العسكرة الذي رفضته شرائح كثيرة من المعارضة ثم قضية التدخل الخارجي، وهو ما أوجد شروخاً كبيرة في الصف الثوري بين مؤيد ومعارض، أضف لذلك حالة الانفصام بين الأجسام السياسية والفصائل العسكرية وبين الجيش الحر والفصائل الإسلامية وبين الفصائل الإسلامية نفسها ودخول الصراع الأيديولوجي كعامل للتشظي والتفتيت داخل الصف الثوري.
عسكرياً لم تكن موازين القوة متعادلة بين الثورة والنظام وكان النظام يمتلك المشروعية السياسية في التمثيل الدولي لاستقدام التدخلات الخارجية بينما رفض حلفاء الثورة دعمها بأسباب الانتصار والاكتفاء بدعمها بأسباب الصمود وهو ما أطال فترة الصراع، أضف لذلك اضطرار الثورة للمحاربة على ثلاث جبهات متداخلة هي جبهة الاستبداد نظام الأسد، وجبهة الاحتلال ضد روسيا وإيران، وجبهة الإرهاب ضد تنظيم “داعش” والميليشيات الإيرانية الطائفية والقوى الانفصالية.
سياسياً كانت العملية السياسية مجردة من أي أدوات ضغط خارجية أو داخلية على النظام لإجباره على تنفيذ القرارات الدولية، رغم أنها قرارات تنص على عملية سياسية تقوم على التشارك والتوافق بين المعارضة والنظام، وهو أمر من شبه المستحيل أن يتحقق، وهو ما يعني أن العملية السياسية تحوي في جوهرها أسباب عطالتها وديمومة تعثرها، مما دفع الدول المؤثرة إلى إعادة تفسيرها باستمرار بما يتناسب مع مصالحها.
كما تحولت القضية السورية برمتها إلى قضية هامشية في الصراعات الدولية فهي عبارة عن نطاق أمني لإسرائيل ضد إيران ونطاق أمني لتركيا ضد المجموعات الانفصالية وممر لوجستي لإيران نحو لبنان والمتوسط، وورقة تفاوضية لروسيا ضد الغرب على المسألة الأوكرانية، وورقة تفاوضية للولايات المتحدة للضغط بها على روسيا وإيران وتركيا، الأمر الذي ساهم في إضعاف الفواعل المحلية للصراع لصالح الفواعل الدولية والإقليمية، وصار بقاء الفواعل المحلية مرتهناً بارتباطها بالفواعل الدولية والإقليمية، وهو الأمر الذي أسهم في عدم حسم ملف الثورة السورية لا باتجاه الهزيمة المطلقة ولا باتجاه النصر المطلق وبقيت تتراوح في منطقة الصمود .
لكن منطق التاريخ وصيرورته وطبيعة الأشياء والسنن الإلهية الجارية كلها تؤكد أن ساعة التاريخ لا يمكن أن تعود إلى الوراء مهما حاول البعض أن يعيدها أو أن يعيق حركة التاريخ فمن يراقب اليوم الديناميات الاجتماعية للمجتمع السوري يعلم جيداً أن كل شيء تغيَّر، وما لم يتغير لا بد أن يتغير حتى تستمر الحياة.