رغم الإعلانات المتتالية لهزيمة تنظيم "داعش" إلا أن التنظيم يبدو أنه تأقلم مع الواقع الجديد، مع عمليات قليلة وشِبه مستمرة، في البادية السورية والمنطقة الشرقية، يؤكد التنظيم من خلالها أنه لا يزال يمتلك العناصر المطلوبة لشن هجمات وتمثيل تهديد لخصومه في سورية والعراق.
مساء الخميس شنّ تنظيم "داعش" أكبر هجوم له في سورية منذ انهيار "دولته" قبل سنوات وهاجم السجن الرئيسي في مدينة "الحسكة" شمال شرقي سورية والذي يضم عناصره المعتقلين، ما أثار مجدداً الأسئلة حول التنظيم وقوته وقُدُراته العملياتية.
في هذه المقابلة نحاور د. عرابي عبد الحي عرابي، الباحث المتخصص في شؤون الجماعات الإسلامية، نقرأ أبعاد العملية الأخيرة، توقيتها، وتزامُنها مع عملية أخرى في العراق، وأزمة الآلاف من معتقلي التنظيم، ومستقبل "داعش" واحتمالية انبعاثها مجدداً في المنطقة.
"نداء بوست": وُصفت العملية الأخيرة بأنها الأكبر لتنظيم "داعش" منذ سنوات، وأعادت إلى الذاكرة عمليات مشابهة قام بها التنظيم في بدايته في العراق، ماذا نعرف حتى الآن عن العملية الأخيرة للتنظيم؟
عرابي: من المهم -بداية- التأكيد على بعض المعلومات البدهيّة حول سجن "غويران"، فهو يضم قرابة خمسة آلاف عنصر من تنظيم الدولة الذين اعتُقلوا على يد "قسد" في سورية، وأغلب هؤلاء من الأجانب، إلى جانب آلاف آخرين -يصلون إلى 10 آلاف- موزّعين في سجن "الرقة" المركزي وسجن "الشدادي" وسجن "علايا" في "القامشلي" وغيرها من السجون، وهذا السجن -نظراً لقربه من مخيمات جنوب وشرق الحسكة- يشهد محاولات استعصاء متكررة، تارة للمطالبة بتحسين ظروف المعتقلين بحسب ما يوافق حقوق الإنسان، وتارة للمطالبة بمحاكمات عادلة وشفافة، وتارة للمطالبة بتسليم المساجين الأجانب لدولهم إلخ.
يوم الخميس الموافق لـ 20 كانون الثاني/ يناير الشهر الحالي اهتزت مدينة الحسكة خاصة حي "غويران" الواقع جنوبي المدينة، على وقع هجوم نفذته ما وصفت بأنها "خلايا نائمة" تتبع تنظيم الدولة، واستهدف سجن الصناعة الذي يضم الآلاف من السجناء المعتقلين على يد "قسد" أثناء العمليات العسكرية الممتدة بين 2015- 2019، ويقدّر عدد المهاجمين من الخارج بحدود 100 عنصر انضم إليهم قرابة 200 عنصر من المعتقلين في الداخل، وهذا يشير إلى حجم التنسيق الكبير بين الطرفين.
ابتدأت العمليات باستعصاء داخل السجن في مختلف مهاجع المعتقلين للمطالبة بتحسين ظروف المعتقلين وبالتزامن مع ذلك نفذ انتحاريان هجمتين بسيارتين مفخختين بهدف فتح ثغرة في أحد جدران السجن وبوابته الجنوبية، وقد كشف هذا التزامن عن تنسيق بين السجناء والمهاجمين في الخارج، إلى جانب إظهار الضعف أو القدرة على اختراق محيط سجن الصناعة، الذي يعتبر من أبرز المناطق المحصنة.
استطاع المهاجمون السيطرة على السجن بما فيه من آليات ومستودعات للبنادق الآلية والأسلحة في السجن وتحرير السجناء -بحسب إعلام التنظيم- حيث فر منهم ما يقارب 800 عنصر -يرجّح خروجهم من المنطقة على الأغلب- في حين أن "قسد" نقلت 300 معتقل إلى سجن "علايا" في القامشلي، وقد احتجز التنظيم قرابة 50 عنصراً من "قسد" وأدت عملية الاقتحام إلى مقتل عدد من القيادات في السجن كمدير السجن.
قُرابة سبعة أيام من المعارك التي امتدت إلى مناطق عديدة محيطة بالسجن ككلية الاقتصاد وحي "الزهور" و"حوش الباعر" ومستودعات "سادكوب" وحي "غويران" نفسه إلى جانب القصف الجوي والأرضي المكثف من قِبل التحالف، يؤكد أن العملية كانت نوعية وكبيرة بالرغم من عدم تسجيل أسلحة قوية للتنظيم فيها، وإنما عبارة عن بنادق آلية وقاذف آر بي جيه، وأحزمة ناسفة وما يكفي من الذخائر -على ما يبدو- لمواصلة معركة ممتدة سهلت لهم البقاء والاشتباك لأيام متواصلة.
"نداء بوست": البعض يتساءل عن توقيت العملية، هل من دلالات معينة في توقيت العملية وخاصة أنها جاءت بالتزامن مع عملية أخرى نفذها التنظيم في العراق، أم أن الأمر مرتبط بالقُدُرات والظروف العملياتية؟
عرابي: يمكن القول: إن هذه العملية خُطط لها جيداً منذ شهور، لكن الأهم من ذلك أن التنظيم وصل إلى مرحلة من النشاط تسمح له بالقيام بهذه العملية، حيث إن عملياته تتجاوز 70 عملية في سورية بشكل وسطي شهرياً، وأغلب المستهدفين من هذه العمليات هم جنود "قسد" وحواجزها، مما يشير إلى قدرة التنظيم على التحرك وتحصيل المعلومات وتأمين المستلزمات الخاصة بالهجمات، إلخ.. ويرتبط هذا الأمر بكل تأكيد بتصاعد عمليات التنظيم في العراق وسورية، ومن الإشارات المهمة التي يجب الانتباه إليها في هذا الإطار، هو اعتقال واختطاف التنظيم على مدار الأعوام الماضية ما يزيد عن عشرة أشخاص من العاملين بالسجون لدى "قسد"، ثم تصفيتهم لاحقاً، وهذا يشير إلى سعي التنظيم لامتلاك الصورة التي تمكنه من إجراء مثل هذه العملية مع امتلاك القدرة الميدانية على ذلك.
"نداء بوست": فشل الهجوم أو نجح، لكن هذا يعيد السؤال حول الآلاف من مقاتلي التنظيم المعتقلين داخل السجون العراقية والسورية، ونحن نعلم أن جزءاً كبيراً من القيادات السابقة للتنظيم كانت في السجون الأمريكية والعراقية في العراق أو في سجون البعث السوري سابقاً، هل أصبحت السجون هي المكان الذي يعيد "داعش" من خلاله تنظيم نفسه؟ وما هو مصير هؤلاء المعتقلين؟
عرابي: بغضّ النظر عن النهاية المتوقعة -مفاوضات وإخراج بعض السجناء سرّاً وتسليمهم للتنظيم- واستسلام بقية العناصر، وبعيداً عن الوقوف المطوّل في جزئيات هذه الواقعة، لا بُدَّ من رؤية أفكار التنظيم في هذه القضية عَبْر نافذة أكثر شمولية.
يحتاج التنظيم للخبرات العسكرية والأيديولوجية القابعة في سجون "قسد"، وهذا ما نستطيع قراءته بوضوح من خلال أدبيات التنظيم، فكّ العاني، هدم الأسوار، العودة إلى ساحات الجهاد، إلخ.
في العدد 246 من جريدة "النبأ" الأسبوعية التي يصدرها ديوان الإعلام المركزي في التنظيم، نلاحظ تخصيص التنظيم لمقالين مطوّلين أحدهما مخصّص لوصف مجريات تهريب سجناء سجن "جلال أباد"، في حين أن الثاني يوضّح إستراتيجيّة التنظيم في العمل على استخلاص المعتقلين من صفوفه لدى خصومه؛ حيث هناك أساليب كثيرة يمكن اتباعها، أولها الهجوم المباشر، وآخرها المال والرشوة، هكذا يريد التنظيم أن يوصل رسالته!
إن إستراتيجية التنظيم الشهيرة بـ "هدم الأسوار" ممتدّة منذ بَدْء تأسيس الزرقاوي في العراق لجماعته الجهادية، حيث كانت العملية الأولى بقيادة "عمر جمعة" المعروف باسم أبي أنس الشامي، فحاول السيطرة على سجن "أبي غريب" وإطلاق سراح الجهاديين المعتقلين فيه في شهر أيلول/ سبتمبر 2004، مروراً بنجاح المحاولة الثانية عام 2013 حيث استطاع التنظيم اقتحام سجنَيْ "أبي غريب" و"الحوت" وإطلاق سراح نحو 600 عنصر توجّه أغلبهم لمساندة التنظيم في سورية.
أُعلِن عن إستراتيجية "هدم الأسوار" مطلع 2012 إلا أن التنظيم في هذه الأثناء استمر بهجماته الاستنزافية الاعتيادية إلى تموز/ يوليو 2013، وقد كانت نتيجة تحرير الأسرى انضمام قيادات وخبرات قويّة لصفوفه، مشكّلين بذلك دعامة أساسيّة في عمليّات التنظيم الكبيرة وهيكلته في كلٍّ من سوريّة والعراق.
تحتل إستراتيجية "تحرير الأسرى" ركناً أساسيّاً في أدبيات التنظيم، فلا يكاد خطابٌ من خطابات قيادييه وناطقيه الإعلاميّين يخلو من الإشارة إلى وجوب "تحرير الأسرى" والوعد بتحقيق ذلك، كما يُلاحَظ أن التركيز على هذه النقطة قد تصاعد في خطابات أبي بكر البغدادي بعد السيطرة على آخِر معاقل التنظيم في سوريّة مطلع عام 2019 إضافة إلى التركيز على هذه النقطة في خطابات الناطق الجديد باسم التنظيم -أبي حمزة القرشي- حيث قدّم وعوداً ونصائح -في خطاباته الثلاثة- تتمحور حول هذه القضية.
يؤكّد التنظيم أن الأولوية والإستراتيجية هي لتحرير الأسرى بقوة السلاح إلا أن أساليب أخرى يتبعها التنظيم، كاستبدال الرهائن، خاصة أولئك الذين لهم قيمة عالية أمنيّاً أو حكوميّاً أو عشائريّاً، إضافة إلى دفع الأموال للفاسدين من الأجهزة الأمنية أو "قسد" لتهريب السجناء واللاجئين أو لتحسين أوضاعهم ومعاملتهم في السجون أو المخيمات، كما يركّز التنظيم كذلك على اغتيال الشخصيات التي تعمل في السجون، بهدف ترويع السلك الأمني، ومنعهم من الاستمرار في تعذيب معتقلي التنظيم ودفع بقية العاملين في السجون لتحسين معاملتهم.
على الرغم من أهمية تحرير أسرى التنظيم في دول أخرى كأفغانستان أو نيجيريا، إلا أنها تبقى دول هامشٍ/أجنحةٍ للتنظيم، في حين أن العراق وسوريّة تمثلان قلب الثقل الجغرافي والتنظيمي للتنظيم، كما أن العراق يحتجز قرابة 12 ألف عنصر من التنظيم موزّعين على سجون مختلفة في بغداد ونينوى وديالى وصلاح الدين، في حين أن "قسد" تحتجز ما بين 10 آلاف –إلى 14 ألف عنصر منهم –معظمهم أجانب- في سجن "غويران" في الحسكة، بينما يتوزّع البقية على سجون بدائية وقليلة في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة السوريّة.
تدرك "قسد" تركيز تنظيم الدولة على السجون ومعسكرات الاعتقال في المناطق التي تسيطر عليها، ولذا فإنها لا تريد خسارة ما بنته ووصلت إليه بضربة قويّة في خاصرتها الأمنيّة، ولذا فإننا نرى -على خطٍّ موازٍ- أن "قسد" تزيد من إجراءاتها الاحترازية حول المخيّمات والسجون التي تديرها، فتحفر الخنادق، وتزيد من عناصر الحراسة، وتتعاون مع التحالف الدولي في تعزيز الأمن التقني عَبْر تركيب آلات تصوير حرارية على حدود هذه المخيمات والسجون.
بمتابعة مسيرة الجماعات الجهادية فإنه يلاحظ امتلاكها لإستراتيجية استغلال الهوامش البسيطة المتاحة لها، لاتخاذ خطوات تصعيدية تزيد من تعقيد المشهد، كافتعال أزمات أمنية أو استغلال الأزمات السياسية، ونلاحظ في هذا الإطار تصاعُد عمليات تنظيم الدولة ضد قوات "قسد" منذ بدء انتشار وباء "كورونا" واتخاذ إجراءات مشددة سعياً لتخفيف انتشاره.
من المؤكّد أن العمليّة العنيفة التي قام بها التنظيم في أغسطس 2020 في "جلال أباد" نموذجٌ مصغَّر، ولكن الواقع في سورية مختلف نظراً لوجود التحالف هاهنا بينما لم يكن هناك من الحراسة والقدرة ما يكفي لصدّ هجوم التنظيم.
تصاعدت نبرة الثقة في خطاب التنظيم -عَبْر إعلامه الرسمي- بقرب الخروج من السجون، بالتوازي مع سعيه الحثيث لتهريب ما يمكن تهريبه من نسوة التنظيم المُحتجَزات في مخيّمات الاعتقال كمخيم "الهول".
" نداء بوست": حجم العملية واستمرارها لأيام كشف عن فشل ذريع لميليشيا "قسد" على المستوى الأمني والعسكري، برأيكم هل من الممكن أن تعيد أمريكا وبعض الأطراف الدولية تقييم شراكتها مع "قسد" بعد هذا الفشل؟
عرابي: من الممكن أن تقوم الولايات المتحدة بإعادة تقييم علاقتها مع "قسد"، إلا أن البديل غير متاح في المشهد الحالي، وربما كانت "قسد" تعلم بهذه العملية وهذا ما تؤكده اعترافات بعض القادة المعتقلين لديها، إلا أنها أرادت وقوع الحادثة لغاية لديها، مثل تحريك ملف المعتقَلين الأجانب لديها، حيث لا تتقدم الدول المعنيّة بمواطنيها في هذا الملف بأي خطوات فعّالة، إضافة إلى تنبيه العالم لحقيقة خطر عودة التنظيم إلى الساحة من خلال بوابة المعتقلين إلى جانب سعيها لنَيْل المزيد من التمويل والتسليح والنفوذ، وما يقال إنه فشل لقسد في إدارة الملف وضبط الأمن سيُقال كذلك عن تعامُل التحالف الدولي والأطراف المعنيَّة بالملف.
"نداء بوست": عودة إلى "داعش"، هل يمكن الحديث عن إستراتيجية جديدة للتنظيم؟ وهل نشهد له بعثاً جديداً؟
عرابي: واقع التدابير الأمنيّة الضعيفة -مبدئيّاً- يُغري التنظيم بالهجوم على السجون التي تضم عناصره في مناطق "قسد"، إلا أن موانع مباشرة تشكّل عائقاً من اتخاذ هذه الخطوة حاليّاً، أهمّها: عدم امتلاك التنظيم لسيطرة جغرافية ممتدة تمكّن عناصره المحرّرين من الاستقرار فيها، إضافة إلى ضعف إمكاناته المادّية، وانخفاض مستوى التأييد الشعبي له في مختلف مناطق سورية والعراق.
بناءً على ذلك فإن التنظيم يعمل في سورية والعراق على استمرار استنزاف الخصوم وتأمين مناطق معزولة ومستقرّة بعيداً عن سيطرة الحكومة و"قسد"، لتكون الخطوة التالية الهجوم على أحد السجون المكتظّة بعناصره وتحريرهم، ودفعهم للاستقرار مجدّداً في أرضه أو ابتعاث بعضهم إلى دول مختلفة في الإقليم لتكوين شبكاتٍ جهادية متجدّدة وخلايا نائمة.
من المؤكّد أن تحقيق هذا الأمر لا يبدو قريباً، إلا أنّه من المتاح لعناصر التنظيم أنفسهم أن يقوموا بخططهم الذاتية للهروب، وهو ما وقعَ عدة مرات في الأعوام الثلاثة الماضية، حيث شهد سجن "غويران" وسجن آخر في دير الزور عدة حالات استعصاء من قِبل عناصر التنظيم، أدّت إلى هروب بعضهم ليلة 31 من آذار/ مارس 2020 في سجن "غويران".
باستطاعة التنظيم إعادة بناء شبكته وخلاياه الأمنية وربما البدء بإعادة مهاجمة مراكز المدن دون الاستقرار فيها -في المدى الحالي-، ومن خلال تحرير عناصره في سورية فإنه يضمن عدة أمور في غاية الأهمية، لعلّ أهمها رفد كوادره بعناصر مؤدلَجة ومدرَّبة سابقاً، وبالتالي ازدياد تصعيد عمليّاته في المناطق التي تنتشر خلاياه فيها، والانطلاق منها إلى مرحلة أعقدَ في الاستهداف والتنفيذ والانتشار.
إضافة إلى ذلك فإن تنفيذ "وعد التحرير" و"هدم الأسوار" سيزيد من الرصيد الدعائيّ للتنظيم في المنطقة والعالم، وسيعيد إلى الأذهان قُدُراته في إقلاق شتى الدول التي تحاربه بأساليب بسيطة، مما سيزيد من تعقيد المشهد وذهاب الاستقرار في المنطقة، وظهور هوامش جديدة لتحرُّك الجهاديين من خلالها.