تشهد العديد من أنظمة الدول العربية توتراتٍ ومنازعات مع شعوبها، حيث بعضها فقدت السلطة والنفوذ وأركان الدولة في ظل تغول لغة السلاح والقوة الموازية لها، ومنها التي رضخت لقوة الأحزاب، ومنها التي لم تجد الاستقرار السياسي وتعاني من تحريك الغرب لمساراتها السياسية وفقاً لمصالحها، ومنها التي تتعرض للانقسامات والانقلابات. بالعموم يبدوا أن الدول العربية لن تبقى على شاكلتها التقليدية المتعارف عليها، وأنه ثمة تغيرات جوهرية ستصيب بنية الخرائط والجغرافيات، سواء بالتفتيت أو استدامة الحروب، أو تغيير شكل ونظام الحكم، وربط بعضها بالمصالح الحيوية الإستراتيجية للقوى الدولية الفاعلة.
فقيس السعيد يأخذ بتونس إلى مشهداً جديد بعد القرارات الاستثنائية في25يوليو/تموز الماضي، والتي أقال بموجبها رئيس الحكومة السابق هشام المشيشي وجمّد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، دفع بالاتحاد العام التونسي للشغل وهو المنظمة النقابية الأولى في البلاد-الرئيس قيس لشرح موقفه من مستقبل العملية السياسية، داعية لضبط مسار تصحيح حقيقي للحياة السياسية، دعوة بنكهة التهديد بجر تونس صوب الاستعصاء السياسي والاضطرابات المجتمعية ما لم تتبلور خارطة طريق نهائي ومشاركة كافة الأطراف السياسية، مستغلة الورطة التي تعيشها تونس.
–قيس السعيد التي نتجت عن "زواج مصلحة غير شرعي ومشكوك فيه بينه وبين الأجهزة الأمنية" التي لا تعيّ من سياقات الحياة السياسية سوا الاعتقال والخطف والتعذيب فحسب، خاصة وأن التوانسة الذين يعانون من ضائقة مادية وهم يشكلون جيشً من الفقراء يعيشون في المناطق المهمشة، ينظرون للدولة من منظارهم الاقتصادي الهشّ، نظرة العداء والعدو القابض على حيواتهم، ومع إعلان الرئيس والبنك المركزي التونسي عن خطة تقشف اقتصادي مع اقتراب الشتاء، فإن التفجير المجتمعي محتمل الحصول في أيّ لحظة، رافضين أنّ يكونوا ضحية التقشف.
كما تعيش السودان أزمة معقدة ومركبة، نتيجة تداعيات الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وحصول مواجهات دامية بين مناصريه ومؤيدي تجمع المهنيين السودانيين المعارض وشرائح واسعة من الشعب السوداني، واعتبروها خطوة غير دستورية، أدت في النهاية إلى إضراب شبه عام في حركة الجامعات والتجارة وتأجيل الامتحانات إلى أجل غير مسمى.
في حين أستفاد رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك من الدعم الدولي أكثر من قادة الانقلاب، فسبق وأن أجمع كلاً من الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" وبعث الأمم المتحدة في السودان، ومندوبة بريطانية في الأمم المتحدة "باربرا ودوورد" والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة ومنظمتي أمنستي وهيومات رايتس ووتش على تأييد المدنيين وحق المتظاهرين وإطلاق سراح المعتقلين، ووفقاً لتعميم داخلي وجهته نائبة ممثل الأمين العام للأمم المتحدة بالسودان استنادا إلى قرار سابق لمجلس الأمن، وقرار مجلس الأمن والسلم التابع للاتحاد الأفريقي، الذي تم بموجبه تعليق عضوية السودان في الاتحاد الأفريقي عقب الانقلاب، حث التعميم عودة الحكومة المدنية المعزولة لمزاولة مهامها تحت قيادة رئيس الوزراء المعزول عبد الله حمدوك بوصفها الحكومة الشرعية حتى لو لم تتمكن من ممارسة نشاطها، رغبة من مجلس الأمن أن يكون الحوار السياسي ممهداً للانتخابات الديمقراطية، رافضة أن يكن الانقلاب مساراً للانتقال الديمقراطي، واشترطت عودة حمدوك لمنصبه رئيساً للوراء كخطوة أساسية في المسار الانتقالي الديمقراطي، وهي النتيجة التي تحققت بموجب الإتفاق بين حمدوك والجيش على أن يقوم الأول بتشكيل حكومة تكنوقراط إلى حين إجراء انتخابات جديدة، مع بقاء الحكومة تحت إشراف عسكري، وإطلاق سراح المعتقلين، بالرغم من زيادة رقعة المحتجين على الاتفاق. ويواجه الانقلابيون معضلة الديون الخارجية، والتي تظهر قاعدة بيانات البنك الدولي.
إن إجمالي قيمة الدين الخارجي للسودان بلغت 22.6 مليار دولار بنهاية 2020، إلا أن هذا الرقم لا يتضمن فوائد الدين المستحقة، مع تلويح أمريكي بتجميد المساعدات البالغة 700مليون دولار وإلغاء إعفاء الديون أذا لم يتراجع البرهان عن قراراته، وتجميد البنك الدولي عن تجميد مساعدته، وه ما يترتب على الجيش السوداني تحمل التكلفة، كل ذلك بسبب التعنت وعدّم القبول بالأخر والتعددية السياسية المطلوبة…إلخ
وتستعد ليبيا لإجراء الانتخابات الرئاسية، وسط كتّلة من المستجدات والمشاكل "بمفاعيل دولية"؛ سعياً لقولبتها بما يتناسب وأهواء القوى المحركة للعملية السياسية في الملف الليبي. فضغوط الأمم المتحدة على البرلمان الليبي لتعديل قانون الانتخابات، تهدف لتكون على مقاس ترشيح رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة "عبد الحميد الدبيبة".
فباتت ليبيا أمام منحيين، أولهما: توفير حمولة قانونية وقواعد إجرائية انتخابية تخدم "الدبيبة" وهو يعني قطع الطريق أمام باقي المنافسين خاصة خليفة حفتر المرفوض تركياً وأمريكياً، ونجل القذافي الذي شكل نيته الترشح مفاجأة مدوية لمناصري الربيع العربي، أو الثاني: وهو نجاح البرلمان بعدم تعديل القانون الانتخابي كان سيدفع بالمجلس الرئاسي صوب تأخير الانتخابات بما يتسنى "للدبيبة" التقدم وفق تلك الشروط. علماً أن دعم الأمم المتحدة لتحركات الدبيبة مثيرة للريبة والشك وترجيح فرضية أن المجتمع الدولي وككل مرة، خدع المواطنين المحليين، في ليبيا كحال غيرها، ونجح في إيهامهم أن الحكومة الحالية مؤقتة، ومنع البرلمان الليبي من سحب الثقة من الدبيبة بسبب نشاطاته الترويجية للحملة الانتخابية المبكر. إذ تنص المادة 12 من قانون الانتخابات الرئاسية الذي أصدره مجلس النواب في التاسع من أيلول/ سبتمبر الماضي، وهو بيت القصيد الخلافي، على أنه “يعد كل مواطن، سواء أكان مدنياً أم عسكرياً، متوقفاً عن العمل وممارسة مهماته قبل موعد الانتخابات بثلاث أشهر، وإذا لم ينتخب فإنه يعود إلى سابق عمله وتصرف له مستحقاته كافة"، في حين نص تعديل البعثة الأممية إلى “يعد كل مواطن، سواء أكان مدنياً أم عسكرياً، متوقفاً عن العمل وعن ممارسة مهامه عند إعلان المفوضية عن بدء العملية الانتخابية ولمدة ثلاثة أشهر".
في حين يشهد الأردن انقلابا إيجابياً للمفاهيم ومستويات ممارسة العمل السياسي والديمقراطي والحزبي وتحوّل حقيقي لتوسيع مشاركة صناعة القرار في المملكة.
وترسيخاً لمخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية يقول الأردنيون: أن مقاربتهم للانتقال السياسي تختلف عن تجارب الربيع العربي، وهي تجربة خاصة بمملكتهم سعياً منهم للوصول إلى تجربة أردنية خاصة. ووفقاً لبعض الكتّاب والصحفيين الأردنيين، أن هذه المقاربة لم تُبنى على أساس ضغط المجتمع المحلي في الأردن، وأن التغيير المطروح لم يسبقه تغيير في نظام الحكم أو رضوخٌ لمطلب المعارضة، إنما رغبة من الأردنيين نفسهم نُخب حاكمة وقواعد اجتماعية بأن الإصلاح البرلماني هو ضرورة للنظام السياسي أولاً، وأن كل المشاكل الأخرى وعلى رأسها الاقتصادية تُحّل بعد الإشكالية السياسية خاصة مع الطرح الجديد لمصطلح "الهويّة الوطنية الجامعة" وما يشهده من نقاشات شعبية وسياسية حول أهمية وإنسانية هذا الطرح وشمول جميع الهويّات الفرعية بالتعددية والتنوع الاجتماعي والاثني والثقافي والديني في هويّة أردنية جامعة، بدلاً من ارتياب البعض له حول مشاكل التوطين و"الوطن البديل"، وخلق هواجس وقلق لا داعي له، خاصة وأن الهوية الوطنية والمواطنة هي صمام الأمان مصدر قوة للمجتمعات والديمقراطيات الناشئة والتبدلات والتغيرات المطروحة.
وفي لبنان تزداد سيطرة حزب الله على لبنان، وبل في وسعه تعطيل الدولة والجيش والقضاء، مادفع بوزير الخارجية "عبد الله أبو حبيب" للحديث حول استعصاء مواجهة حزب الله، كمطلب دائم من الإدارة الأمريكية، وهو المنحى الذي سبق وأن ذهب إليه سعد الحريري ووليد جنبلاط. عدا الأزمة الدبلوماسية التي خلقها ويزر الإعلام اللبناني جورج قرداحي ولم يكترث لحجمها ولالتداعياتها، خاصة وأن لبنان نفسه دولة آيلة للسقوط، مادام السلاح مستدرج إلى السياسية، وهذه البندقية تطوع القضاء وتهدد القضاة، ويرسم الخطوط الحمر للجيش اللبناني وتالياً يبقى لبنان على راهنيته، بمعنى أدق فإن كل المحاولات الداخلية لإرجاع حزب الله إلى الحجم المفترض لأي حزب ضمن إطار دستوري وسلطة وكلمة عليا للدولة اللبنانية، بات استعصاءٌ فاضحاً.
أما العراق فهو حدثٌ أخر تماماً. فبعد قرابة الـــ/16/ عاماً على سرديات التعددية والشفافية، وخطابات الديمقراطية والانتخابات، جاءت النتائج الحالية لتفضح عن درجة وحجم تغول كارتيلات السلطة، أو السلطة الموازية الأقوى، لتجعل من العراق في حالة اللادولة، وتصل بالعراق إلى الانسداد والاحتقان السياسي نتيجة فشلهم في الانتخابات التي نجح الكاظمي في إيصالها لخاتمتها السعيدة للفائزين ديمقراطياً، وكارثية لمن كشفهم العراقيون على حقيقتهم.
فمحاولة اغتيال الكاظمي شكلت انعطافة في فكرة أصحاب السلاح التي تحولت من التهديد وخلق التوترات إلى القتل على أعلى المستويات بعد أن كان الاغتيال من نصيب النشطاء والصحفيين والكتاب فحسب، سعياً صوب شرعية القاتل لصوت الديمقراطية، وإفشال المفاوضات الجارية لتشكيل حكومة ما بعد الانتخابات، فكان الاستهداف لشخص الكاظمي ثلاث رسالة متشابكة للعراق الذي تريده النُخب الشعبية وقوى الثورة. الرسالة الأولى: انتقل الاستهداف من المعارضين إلى استهداف الانتخابات نفسها، والرسالة الثانية: لا يجوز للعراق أن يكون بعيداً عن ساحة تصفية الحسابات، هؤلاء يريدونه عراقً غارقً في الصراع الداخلي ولأجل الصراعات الإقليمية، دون حساب الارتدادات السياسية والاقتصادية والأمنية، ومصير الحكومة المقبلة، فتلك السلطة الموازية تنظر إلى نفسها نظرة القداسة والمنزهين عن الفشل في الانتخابات، والرسالة الثالثة: أن الاغتيال كان وسيبقى الفاعل الأول والأكبر والأكثر "حكمة"! في ماضي وحاضر العراق، ولتحويله إلى إستراتيجية مستقبلية.
أمام كل هذه السيولة الدموية، والحمولة العابرة للهويّات الوطنية في بعض الدول العربية، ومستوى التحديات والتهدديات التي تجتاح دولاً عربية أخرى، يُطرح سؤال الهم الكردي في سوريا، سؤال ما العمل لإنقاذ ما تبقى من المدن الكردية وشمال شرق سوريا. وحيث أن المشهد العام في أغلب دول الصراع والتوترات مشابه إلى حدٍ ما مع المسرح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأمني والعسكري بين كُرد سوريا بعضهم مع بعض، وفي عموم شمال شرق سوريا، وكل تلك الصراعات التي تجاوزت عقوداً في دولة نالت اعترافها الاممي منذ أكثر من نصف قرن، ولم تفلح تلك الأنظمة في فرض استمرار سياسات العسف والإنهاك والإنهاء والمحق والسحق لكل صوت مخالف. وإذا كانت دولاً مثل السودان وتونس والعراق وليبيا بعلاقاتها الدولية واستفادة الفاعلين الدوليين منهما سياسياً وجغرافياً والسعي للاستثمار المالي والاقتصادي، وإذا كانت أحزابٌ ومجموعات مسلحة مثل حزب الله والحشد الشعبي، بقواتهم وعتاتهم وسيطرتهم الجغرافية، كل هؤلاء لم ينجوا من دعم أو مقصلة المشاريع الدولية، وبل أصبحوا جزءً من هدمِ أحجار الدومينو للحدود الجغرافية، وسعي الأردن صوب تفرده بتجربة جديدة خاصة به تنفتح على شعبها ومواطنيها، فهل ستتمكن الإدارة الذاتية من المقاومة والصمود أمام الشروط الدولية لنيلها للشرعية السياسية، وهي مع منظومتها السياسية والعسكرية تُغير استراتيجياتها التحالفية بين الليل والنهار مع موسكو وواشنطن، وهل لها علمٌ بأن أمريكا والغرب يمكلون سطوة صناعة القرار داخل المؤسسات المالية الدولية التي تصعد من سياساتها ولهجتها تبعاً للموقف الأمني والسياسي لمصالح واشنطن والعواصم الأوربية، وفي كل اتفاقا تسعى إليها أيَّ جهة ما، تكون ملزمة بالشروط السياسية والاقتصادية، وإن لم تُكتب تلك الشروط أو تُشهّر علانية، لكنها تملك عشرات أوراق الضغط لعرقلة أي مشروع سياسي لا ينتمي إلى أسرة المصطلحات والمفاهيم والشروط الدولية لإيجاد نظامٍ سياسي جديد.
الوقت يضيق بسرعة، ومساحة الحركة تتقلص أمام كُرد سوريا، ولعلهم يعثرون على "عاقلٍ" يُسدي لهم نصيحة مجانية: المجتمع والإقليم العربي كُله يتجه صوب التغيير، فاستفيدوا من تجاربهم، ولا تستمروا في الغرور واللعب بالشعب، فالعناد في السياسية تأتي بنهاية صاحبها.