المصدر: جيروزاليم بوست/ بقلم: جوناثان سباير
ترجمة: عبد الحميد فحام
لقد وصل الوضع السوري إلى طريق مسدود منذ عام 2019، مع تقسيم السلطة بين ثلاثة جيوب بحكم الأمر الواقع حيث إن كلاً منها يعتمد على رعاية القوى الخارجية. فنظام الأسد، برعاية روسيا وإيران، يسيطر على حوالَيْ 60-65٪ من الأراضي السورية، بما في ذلك الساحل والمدن الرئيسية، أما قوات سورية الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة والتي يهيمن عليها الأكراد فتسيطر على معظم المنطقة الواقعة شرق نهر الفرات، والتي تُشكّل ما يقرب من 30٪ من مساحة سورية. أما الجيش الوطني السوري، الذي أُعيد تشكيله برعاية تركية والمدعوم من قِبل أنقرة فيسيطر على منطقة في الشمال الغربي، تضم حوالَيْ 10٪ من الأراضي السورية.
استمر هذا التقسيم بحكم الأمر الواقع في الغالب منذ أوائل عام 2018. وقد قامت تركيا بالاشتراك مع قوات الجيش الوطني بتغيير الحقائق على الأرض إلى حدّ ما في شهرَيْ تشرين الأول/ أكتوبر وتشرين الثاني/ نوفمبر من عام 2019، من خلال توغّل برّي شرق الفرات. وقد نتج عن ذلك إنشاء جيب من الأراضي الخاضعة للسيطرة التركية على حساب المنطقة الخاضعة للسيطرة الكردية، كما تمّ نشر قوات تابعة للنظام وللقوات الروسية شرق الفرات لردع المزيد من التقدم التركي. منذ ذلك الحين، كان الوضع العسكري على الأرض ثابتاً، والمسألة الأوسع المتعلقة بمستقبل سورية لم تُحلّ.
هناك حالياً مؤشرات على تجدُّد مثل هذه التحركات، إذ إن سلاح جو الجيش التركي يقوم بشنّ حملة جوية ضد أهداف في المنطقة الكردية/ الأمريكية منذ 20 تشرين الثاني/ نوفمبر. وقد هدّد الرئيس التركي بالفعل بشنّ هجوم برّي، بهدف دفع القوات الكردية للتراجع للخلف مسافة 30 كيلومتراً من الحدود كما يهدف لدخول ثلاث بلدات هي تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني). وقالت مصادر كردية لصحيفة جيروزاليم بوست: إن القيادة الكردية السورية توقعت الهجوم أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر. ولكن على ما يبدو أن تأجيلها جاء نتيجة للاحتجاجات الأمريكية والروسية على أنقرة والضغط عليها. إلا أن المصادر تشير إلى أن الخطر لم ينتهِ بعدُ.
إن الرئيس التركي يهدد بشنّ عملية عسكرية في سورية بينما يحاول إطلاق جهود دبلوماسية. فإلى جانب تهديدات الغزو، يبدو أن أردوغان قد شرع الآن في مسار دبلوماسي. فلقد أعرب الرئيس التركي، الخميس 15 كانون الأول/ ديسمبر، عن رغبته في عقد لقاء ثلاثي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس النظام السوري بشار الأسد، حيث قال: دعونا نجتمع معاً. لقد عرضت هذا على السيد بوتين، وقد تلقى الأمر بشكل إيجابي. وبالتالي، سيتم القيام بسلسلة من الاتصالات.
وقال الرئيس التركي للصحافيين في طريق عودته من رحلة إلى تركمانستان، حسبما ورد على موقع “المونيتور” الإخباري: “نريد أن نتخذ خطوة ثلاثية سورية-تركية-روسية”. وجاءت هذه التصريحات في أعقاب محادثات في إسطنبول يومَيْ 8 و 9 كانون الأول/ ديسمبر بين نائبَيْ وزير الخارجية التركي والروسي، ومحادثة هاتفية بين بوتين وأردوغان في 11 من نفس الشهر.
إن مثل هذه التصريحات كانت بعيدة كل البُعد عن أردوغان قبل عقد من الزمان. حيث برزت تركيا باعتبارها الداعم الأول والأكثر تصميماً على الدعم للثورة التي سعت إلى إسقاط نظام الأسد. ففي عام 2012، في الأيام الأولى من الثورة، فتح أردوغان الحدود فعلياً للثائرين على النظام، مما سمح لهم بنقل الأسلحة والإمدادات إلى سورية. أما الآن وبصفته الحامي الأخير لما تبقى من الثورة، يبدو أن الزعيم التركي غيّر من أسلوبه تماماً- ليصبح التقارب مع نظام الأسد، تحت رعاية روسية.
ويشير موقف الزعيم التركي إلى أنه بينما قد يكون تخلّى في الوقت الحالي عن طموحه بالوقوف على رأس مجموعة من الدول الإقليمية الإسلامية السنية، فإن هذا لا يدفعه إلى العودة إلى السياسة الإقليمية الموالية للولايات المتحدة. بدلاً من ذلك، يبدو أنه يسعى للاقتراب من روسيا من أجل زيادة إضعاف الكيان الذي يقوده الأكراد في شرق سورية وإلغائه في نهاية المطاف. يعتبر أردوغان أن هذا الكيان، المتحالف مع الولايات المتحدة لقتال داعش، هو عبارة عن واجهة لحزب العمال الكردستاني، الذي تخوض تركيا حرباً معه منذ عام 1984. وكنتيجة لهذه الحقيقة، يعتبر الرئيس التركي أن الهدف الرئيسي الآن هو ضرب المشروع الذي تقوده قوات سورية الديمقراطية على حدود بلاده.
وفي هذا الصدد، تجد تركيا أن تعاونها مع روسيا التي تدعم نظام الأسد، الذي يريد تأكيد سيطرته الاسمية على السيادة السورية بأكملها، أمر واقعي. في الحقيقة، تدعم روسيا هذا الهدف أيضاً، وكذلك حليفتها إيران، وكِلاهما يرغب في رؤية رحيل القوات الأمريكية التي تضمن حالياً استمرار وجود الجيب الذي يقوده الأكراد.
المنطقة الكردية، المعروفة رسمياً باسم الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية، تم تقليصها تدريجياً من قِبل تركيا في ثلاث عمليات عسكرية منذ عام 2016. ففي عام 2019، أجبرت العملية التركية الأكراد للاستنجاد بالنظام وبالروس وطلبوا من قوات النظام والقوات الروسية دخول المنطقة لمنع مزيد من التقدم التركي. إذا ما أُجبر الأكرادُ السوريون على الاختيار بين الأتراك أو الأسد، فمن غير المستغرب أن يختاروا الأسد. أما بالنسبة لأردوغان، فإن هذا الطرح الجذاب المتمثل في استخدام نظام الأسد كنوع من السندان للمطرقة التركية، التي سيُسحق بها الأكراد السوريون أمرٌ مثيرٌ للاهتمام.
في عام 2019، لم تحاول قوات النظام فرض سلطة الأسد السياسية شرق الفرات. وعلى عكس بعض التوقعات، اقتنع النظام في ذلك الوقت بتعزيز وجوده العسكري على الحدود فقط. لكن هذه الحادثة عملت على زيادة تآكُل منطقة سيطرة وسلطة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية. يبدو أن هذا النمط يروق لأردوغان، حيث تستلزم تهديدات العمل التركي روابط أوثق بين الأكراد والنظام، مما يؤدي إلى زيادة إضعاف الأكراد. يبدو أن الحلقة التالية من هذه الديناميكية هي برعاية روسية جارية.
يبدو أن مقترحات روسيا في هذه المرحلة تشبه الأساليب التي استخدمتها موسكو لتقليص المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة قبل خمس سنوات. تقترح موسكو انسحاب مقاتلي قوات سورية الديمقراطية من عين العرب (كوباني) ومنبج، تاركين فقط قوات الشرطة شِبه العسكرية الكردية “الأسايش”، التي ستخضع بعد ذلك لقيادة النظام. وبحسب المونيتور، وافق الأكراد على هذه المطالب. وتطالب تركيا الآن بتنازُلات كردية إضافية.
يبدو كل ذلك واضحاً إلى حدّ ما كما يبدو وفي الوقت نفسه، أن اللاعب الرئيسي الغائب في الديناميكية هو الولايات المتحدة. إن الولايات المتحدة هي التي تضمن استمرار وجود منطقة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سورية. لكنها تفعل ذلك بدون التزام سياسي من أي نوع. وبدلاً من ذلك تقتصر العلاقات رسمياً على التعاون في المعركة المستمرة ضد تنظيم الدولة الإسلامية. وقد أوضح المحاورون الأمريكيون للقيادة الكردية أنهم لن يكونوا بالضرورة في سورية على المدى الطويل. لذلك فإن الولايات المتحدة لا تعارض المفاوضات بين الإدارة الذاتية ونظام الأسد.
من المرجح أن يؤدي موقف “عدم التدخل” من قِبل الولايات المتحدة إلى استمرار التآكل البطيء لحكم الأكراد السوريين في منطقة سيطرتهم. وقد يعكس عدم وجود التزام أمريكي واضح في سورية وجهة نظر ترى هذه الساحة كمنطقة راكدة وذات أهمية إستراتيجية قليلة في الوقت الحاضر. ولكن التفكير بهذه الطريقة أمر خاطئ. فسورية هي جبهة واحدة لتحالف موسع ومتكامل بين موسكو وطهران، والذي يشمل أيضاً ساحات القتال في أوكرانيا والاضطرابات الداخلية في إيران (فموسكو، وفقاً لتقرير حديث على قناة إيران الدولية، تقوم بتقديم المشورة والمساعدة للإيرانيين في قمع الاحتجاجات). والجيب الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة هو بمثابة منطقة إستراتيجية مهمة يمنح الطرف الخصم لهذا التحالف تواجداً في سورية وقدرة على معارضة أو إحباط أو عرقلة واحتواء طموحات موسكو وطهران.
تسعى تركيا إلى وضع نفسها على مسافة واحدة من كِلا الجانبين، وتحاول الاستفادة من كِليهما. قد تكون المشكلة أن التفكير الإستراتيجي من الجانب المؤيد للولايات المتحدة لم يلحق بعدُ بالواقع الناشئ في هذا السياق. وإلى أن يحدث ذلك، ستكون الأفضلية مع الجانب الروسي الإيراني وهو يتجه بالتعاون التركي نحو نهاية اللعبة التي تهدف إلى تحقيق انتصار إستراتيجي له على الساحة السورية.