بعد مرور أكثر من شهرين ونصف على الغزو الروسي لأوكرانيا وضحت طبيعة الصراع الدولي بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى أنه صراع صفري لا يقبل أنصاف الحلول فلا بُدّ في نهايته من رابح ومهزوم.
لقد انصدم الفريقان المتحاربان في أوروبا بقلة حلفائهما في العالم، وأكثر المصدومين هو الولايات المتحدة لخيبة أملها بحلفاء تاريخيين مفترضين آثروا الحياد أو الوقوف في المنطقة الرمادية إما انتظاراً لمن ستؤول إليه الكفة أو سخطاً على السياسات الأمريكية المتعجرفة والأنانية تجاهها.
وفي حال كهذا برزت تركيا كأهم دولة يسعى أحد الطرفين لضمها إلى جانبه أو عدم الانجراف إلى جهة خصمه على الأقل.
إن موقع تركيا الجيوسياسي جعلها مؤهلة للعب أدوار مهمة في الصراع.
ونظراً لأن الساسة في تلك الحالات يسعون لتحقيق أكبر المصالح لبلادهم بمحاولة اقتناص أقصى ما يمكنهم والتي في الظروف العادية يصعب عليهم تحقيق ذلك.
في ظل حاجة الاتحاد الروسي والولايات المتحدة للموقف أو الانحياز التركي لجانبه وجدت القيادة التركية أن الفرصة التي قد انتظرتها أنقرة طويلاً ودأبت عليها أتتها على طبق من ذهب.
لم يفاجئ أحداً إعلان الرئيس التركي -والبعض رآه متأخراً- عن رغبة بلاده في استكمال ما بدأته عند توقف عمليات “نبع السلام” في خريف عام 2019، وإعلانه أن كِلا الطرفين الروسي والأمريكي لم يلتزما بتعهداتهما في إبعاد ما يسمى قوات سورية الديمقراطية “قسد” تلك الميليشيات التي تصنفها أنقرة بأنها إرهابية تسعى لتقويض الأمن القومي لتركيا.. لم تلتزم كِلتا الدولتين بإبعاد تلك الميليشيا إلى عمق 32 كم عن حدود تركيا الجنوبية وداخل العمق السوري وعلى كامل المناطق الباقية من الحدود.
تغيرت الظروف اليوم تماماً عن ظروف العام الماضي عندما هددت تركيا بدخول قواتها وفصائل الجيش الوطني السوري الذي تدعمه لتنفيذ تلك التعهدات التي تم تقديمها لها ولم تنفذ.. حينها وجدت القيادة التركية ضوءاً أحمرَ (أو عيناً حمراء) أمريكية روسية مشتركة إزاء التهديدات التركية.
وتم إعادة الخطط الجاهزة إلى الأدراج وتأجيل العملية إلى وقت تسمح به الظروف.
لن تأتي لحظة أو فرصة إستراتيجية لتركيا كما هي اليوم حيث يخوض أعداؤها الاثنان حرباً طاحنة.
لا أظن أن الولايات المتحدة بعد طول تجربتها مع الرئيس التركي ستقوده إلى حافة الهاوية عبر الممانعة الأمريكية الرسمية المعلنة للعملية التركية بعد طول انتظار وصمت وقد يكون مغزاها الموافقة المشروطة بمناطق معينة وليس كامل الشريط الحدودي.. إذ إن الضغط الأمريكي على القيادة التركية سابقاً أدى لارتكاب سابقة لم تحدث أبدا في منظومة الناتو حيث اشترت تركيا المنظومة الدفاعية الروسية S400 ولم تأبه لكل التهديدات الأمريكية بفرض عقوبات عليها وخاصة استبعادها من المشاركة ببرامج تصنيع طائرة الشبح “F35”.
إلى جانب غيرها من العقوبات.. بل إن تهديد الرئيس التركي بإحدى زياراته لموسكو واصطحاب الرئيس الروسي له إلى مصنع طائرات السوخوي 53 (والتي تضاهي الشبح الأمريكية) وصعود الرئيس التركي إلى مقصورة القيادة كأول زائر أجنبي يفعل ذلك… كل ذلك تبادلتها الأطراف الثلاثة (الولايات المتحدة وروسيا وتركيا) مع بعضها في استعراض شدّ الحبال بينهم.
لذلك ليس منطقياً أن تعارض الولايات المتحدة أي مسعى تركي لعملية عسكرية في سورية خوفاً من خسارة الحليف التركي والذي وقف حتى الآن بخطوات معقولة مع الناتو بصراعه مع روسيا.. والمتوقع أن يحتاج الناتو مستقبلاً كثيراً لتركيا في حال تطوُّر الصراع مع روسيا إلى درجات تتطلب مضايقة أو إغلاق الممرات البحرية التركية وعزل البحر الأسود عن البحر الأبيض المتوسط وغيرها من الخدمات الجيوسياسية، والتي من الممكن أن تقوم بها تركيا لإزعاج أو خنق الاتحاد الروسي.
إن آخِر موعد لقبول عضوية فنلندا والسويد هو في 26 حزيران الحالي باجتماع الناتو المقرر عقده بإسبانيا وليس من مؤشر على موافقة تركيا على ذلك إذ لم يتم تحقيق جملة مطالب تركية يجري التفاوض بشأنها تحت الأضواء أو بدونها.
أما عن الموقف الرسمي الروسي فقد رأى أغلب المتابعين أن ما صدر عن موسكو حتى الآن هو موافقة ضِمنية لما ستقدم عليه أنقرة .. أولاً لأنها غير قادرة أو راغبة بخوض صراع خارج الساحة الأوكرانية الآن..
وثانياً تأمل موسكو بإحداث شرخ بين واشنطن وأنقرة يُبقي الموقف التركي الحالي من الحرب الروسية على أوكرانيا بحدوده الحالية وعدم ميله لاتخاذ مواقف أكثر ميلاً باتجاه الغرب.
وثالثاً إن العمليات التركية المفترضة لن تتم على حساب حليفها النظام السوري والمناطق التي يسيطر عليها بل على مناطق ما تسمى ميليشيا “قسد”.
الأهداف الإستراتيجية للعملية
1- تسعى تركيا لتأكيد مكانتها الإقليمية كقوة إقليمية شرق أوسطية مهمة حيث تستعد في العام القادم للتخلص من القيود التي فرضتها اتفاقية لوزان 1923.. وتأكيد مكانتها شرق المتوسط وثرواته الباطنية ومحاولة تعديل الجرف البحري والمجال الجوي المقيد الآن ومجابهة هذا الواقع تتطلب أن تكون الحدود التركية الجنوبية مع سورية والعراق مؤمنة خاصة أن العمليات العسكرية جارية الآن في شمال العراق ومن المفترض استكمالها على ما تبقى من الحدود مع سورية.
2- إن دَرْء أخطار حزب العُمّال الكردستاني التركي وصنائعه هو من أولويات الأمن القومي للدولة التركية وقد تمكنت بالفعل الدولة التركية من نقل العمليات ضد الحزب إلى خارج أراضيها وتأمل بانتزاع منطقة أمنية عازلة عن قواعد الحزب في سورية والعراق.
3- إن قضية اللجوء السوري إلى تركيا وبعد مضيّ 10 سنوات واكتفاء المجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية بمقاربة إنسانية (لا تُغني ولا تُسمن من جوع) وعدم وجود مؤشرات لنِيَّة دولية بحل جذري للمسألة السورية تتيح عودة اللاجئين إلى بلادهم.. ولأن قضية اللجوء السوري بتركيا بات يُخشى منها انزلاقها لمنزلقات خطيرة داخل المجتمع التركي أولا وعلاقته مع السوريين ثانيا..
ولسحب الاستثمار السياسي لبعض من أحزاب المعارضة لورقة اللجوء السوري.. فقد أعلنت أنقرة عن مشروعها بإعادة مليون لاجئ سوري إلى بلادهم طوعاً بعد إنجاز ترتيبات عودتهم خلال عام… ولأن المناطق المحررة الخاضعة للحماية التركية لا تتوفر فيها مقومات استقبال هذا العدد بالفترة الزمنية القصيرة.. لذلك فإن الحاجة التركية لتوسيع المناطق الخاضعة لحمايتها ضرورة مُلِحّة لحل تلك المشكلة.