الأسباب العميقة لانتكاسة ثورات الربيع العربيالنار التي التهمت جسد البوعزيزي، فجّرت ثورة السابع عشر من ديسمبر 2010 في تونس، والتي انتقلت شراراتها إلى مصر واليمن وليبيا وسورية، بعد ذلك بفترات قصيرة لم تتجاوز الثلاثة أشهر.
الثورات العربية أُطلق عليها تسمية "ربيع عربي"، وهي تسمية سبقت نتائج ومآلات هذه الثورات، وهي أتت على قاعدة تراجُع مستويات معيشة مواطني هذه البلدان، ونتيجة لانعدام الحريات السياسية فيها، إضافة إلى لُجوء أنظمة الحكم العربية إلى القمع الشديد، من أجل ترسيخ أنظمتها الاستبدادية.
ثورات الربيع العربي رفعت شعارات الحرية والديمقراطية، هذه الشعارات وتحديداً "شعار الديمقراطية"، كان يحتاج إلى قوى حاملة له، ذات مصلحة به، وهي قوى على درجة من التطور الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، أي قوى البُرجوازيات الوطنية، التي لها مصلحة بنظام ديمقراطي يتم فيه تداوُل السلطة عَبْر انتخابات شفافة.
هل كانت البرجوازيات العربية في بلدان ثورات الربيع العربي ذات مشروع اقتصادي سياسي، يهدف إلى تحقيق تنمية شاملة لبِنَى المجتمع في هذه البلدان؟ أم كان مشروعها عاجزاً عن تحقيق هذه التنمية، وبالتالي كان على غير استقلالية وأُفُق تطوُّر ينهض به.
جماهير الشعب في بلدان الربيع العربي التي نزلت إلى الشوارع طلباً لتغيير سياسي فيها يلغي نمط الحكم الاستبدادي، لم تكن مُؤَطَّرة في حركة سياسية عامة لها برنامجها السياسي، وهذا ما جعل القوى السياسية التقليدية كأحزاب وحركات الإسلام السياسي أو قوى المؤسسة العسكرية (الجيش) تقفز للسلطة بدلاً من القوى الثورية.
إن صيرورة كل ثورة من ثورات الربيع العربي ترتبط بالضرورة بعاملين اثنين، ذاتي وموضوعي، فهل تحققت هذه الضرورة في ظروف كل ثورة من ثورات الربيع العربي؟ هذا ما يجب مناقشته على مستوى بِنَى مجتمعات بُلْدان هذه الثورات.
في التجربة التونسية، يمكن القول: إن سنوات حكم الحبيب بورقيبة الممتدة من عام 1957 إلى عام 1987 عملت فعلياً على الهيمنة الشاملة على الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي في تونس، حيث أرست سلطة الفرد، هذه السلطة كانت تمنع قوى التطور الاجتماعي من التبَلْوُر ببرامج وأُطرٍ تخدم تنمية البلاد، ولذلك بقيت البِنَى الاجتماعية التونسية بدون أُفُق تطوُّر تنموي، وهو أمرٌ سهَّل على زين العابدين بن علي الانقضاض على الحكم، وفرض الهيمنة الديكتاتورية بعد وقت قصير من تسلُّمه زمام الحكم، حيث ألغى الحياة السياسية، وعمل على تدجين منظمات المجتمع المدني مثل اتحاد الشغل.
إن مَرْكَزَة السلطة ضِمن دائرة ضيقة تختص بالديكتاتور وبطانته، هي مَرْكَزَة ليست ذات طابع سياسي محض، بل تتعدى إلى كونها مَرْكَزَة للاقتصاد بيد مجموعة صغيرة لا يُهمها تطويره، بل تعمل على نهبه، وعلى تحويله إلى اقتصاد غير منتج بالمعنى العميق لعملية إنتاج السلع الإستراتيجية، مثل تطوير قطاع الصناعة، أو تطوير قطاع الزراعة من خلال تطوير التِّقانَة فيه.
هذا التوجه الاقتصادي مترافقاً مع منع الحياة السياسية الطبيعية في البلاد، هو ما جعل مَرْكَزَة السلطة تأخذ طابعاً قمعياً شديداً، الغاية منه عدم تهديد السلطة الأوليغارشية ومصالحها الضيّقة، إضافة إلى عدم وجود أُطر سياسية ذات قدرة على تَأطِير حركة الطبقات الاجتماعية، وهو ما سمح لقوى الإسلام السياسي بالقفز إلى سُدَّة الحكم، دون تقديم برنامج تنموي ينهض بالبلاد.
هذا النموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي أخذ أشكالاً ذات جوهر تسلطي استبدادي واحد، ولكن ركائزه وأدواته تختلف من بلد إلى آخر من بلدان ثورات الربيع العربي.
ففي مصر ومع ثورة 25 يناير عام 2011 كانت الساحة الشعبية منقسمة بين اتجاهات مختلفة، منها اتجاه ليبرالي رفع شعارات دولة الحريات والديمقراطية، دون أن يلتفت إلى واقع البِنَى الاجتماعية التي يمكنها حمل هذا البرنامج، فقُوَى السوق الاقتصادية وتمثيلها السياسي كان هامشي الفعل، بينما كانت قوى الإسلام السياسي أكثر تنظيماً وقدرة على قيادة الثورة المصرية، وهي قوى ذات بِنْية شمولية تتعارض بِنْيتها مع قيام دولة ديمقراطية تعددية، وهو أمرٌ ظهر مع محاولة حكومة محمد مرسي الإخوانية أَسْلَمَة الدولة.
أَسْلَمَة الدولة أي استخدام الفكر الديني وهو فكر ما قبل وطني، وَضَعَ حكومة مرسي الوليدة بمواجهة قوة مؤسساتية أكثر تنظيماً وفعاليةً، ألا وهي مؤسسة الجيش، هذه المؤسسة هي مَن يسيطر على الحكم منذ الانقضاض على النظام الملكي من قِبل حركة الضباط الأحرار عام 1952 التي قادها الجنرال محمد نجيب ثم تلاه جمال عبد الناصر في قيادتها بعد إبعاده.
المؤسسة العسكرية المصرية المسيطرة على الحكم في البلاد هي تتصرف كطبقة اجتماعية ذات مصالح خاصة، تسمح لها بالاستمرار في حكم البلاد والهيمنة السياسية والاقتصادية عليه، هذه المؤسسة شعرت بخطرٍ من إجراءات حكومة مرسي على مصالحها، فقامت بالانقضاض على هذه الحكومة الوليدة، وأعادت الوضع إلى مربعه الأول قبل الثورة.
هذه الحالة تكشف عن عدم تَبَلْوُر طبقات اجتماعية وتحديداً الطبقة البُرجوازِيَّة ذات المصلحة باقتصاد السوق وتداوُل السلطة والمنافسة، وتكشف أيضاً عن عدم تَبَلْوُر الرؤية السياسية والفكرية لدى الطبقات الشعبية المصرية التي يمكنها حمل برنامج سياسي تحرُّري يقف ضد ترسيخ دولة مستبدة، صنعها العسكر طيلة قُرابة ستين عاماً، فقد كانت الأُطُر السياسية والنقابية المصرية التحرُّرية ضعيفة البِنَى نتيجة تعرُّضها للقمع الشديد منذ استيلاء العسكر على السلطة في البلاد.
إن علاقة جدلية ستقوم بين الطبقة البُرجوازِيَّة المنتِجة في بلدها، والطبقات الشعبية المنخرطة بعملية الإنتاج، فكلما تطوَّرت البرجوازية ونمت قُوَاها، كلما اتسع تأثيرها على القوى المنتجة، وهذا ما يجعل قُوَى الإنتاج في حالة إدراك يتراكم باستمرار وعياً لمصالحها وحقوقها.
مثل هذه العلاقة لا تزال غائبة كفعّالية تاريخية عن بلدان ثورات الربيع العربي، بسبب طبيعة العلاقات الاقتصادية والسياسية التي فرضتها قوى الاستبداد المسيطرة على بلدانها، وهو أمرٌ أبقى وعي الطبقات الاجتماعية الشعبية دون تَبَلْوُر واضح، مما سمح لقوى شمولية بتجييش هذه الطبقات تحت شعارات عن الحرية ودَحْر الظلم، في وقت كانت ترسم فيه هذه القوى أُفُق سيطرتها الشمولية على الدولة ونظام الحكم.
إن انتكاسات ثورات الربيع العربي، أو تعثُّرها في تحقيقها لأهدافها يعود أساساً إلى عدم تَبَلْوُر أُطُرها السياسية الحقيقية، ذات المصلحة ببناء دولة مدنية ديمقراطية تعدُّدية، وهذا لا يعني نهايةَ المطاف، بل إن قُوَى الثورة المضادة التي استطاعت في مصر وتونس تأخير انتصار الثورات، إنما هي تعرقل إلى حين قوة اندفاع قُوى التغيير الديمقراطي ونموها التاريخي.