نداء بوست- محمد جميل خضر- عمّان
مع أول تباريح صباح يوم الجمعة تنهال في المدى المحلّي الأردني، رسائل المباركة الدائرة بمعظمها على مختلف وسائل التوصل الاجتماعي، خصوصاً الواتساب والفيسبوك، حول مفردتين رئيسيتين: “جُمعة مباركة”.
ومع انتصاف النهار، وتأدية صلاة الجمعة جماعة في المساجد، وانتشار الناس كل نحو مشاغله وارتباطاته، وهي يوم الجمعة كثيرة: جاهة، دعوة غداء، زيارة أرحام، رحلة عائلية (فسحة سيران عندما يخرج الناس للأماكن العامة والحدائق والمتنزهات)، مشاركة أهل أو أصدقاء أو أقارب فرحهم بزفاف أو تخرج ابنهم أو ابنتهم، على مباركة بمولود، زيارة مريض وما إلى ذلك، حتى تبدأ بالظهور والانكشاف، مؤشرات المنسف بوصفه الخيار الأول لطبخة الأردنيين يوم الجمعة.
ومع السنين سار الفلسطينيون في الأردن على النهج نفسه، وأتقنوا المنسف بقدر ما يتقنه الأردنيون.
والمنسف لمن لا يعرفه من الإخوة العرب -وأشك أن أحداً لا يعرفه، أو لم يسمع، على الأقل به- هو ما كان يُعرف في الماضي بثريد اللحم، تطوّر مع القرون فأصبح الأكلة أو الوليمة الكبرى المكونة من لحم الضان مع الأرز مع الجميد (الأقط)، والجميد هو حليب الغنم، أو البقر، بعد تحويله إلى لبن، ثم تجفيفه على شكل أهرامات دائرية صلبة.
في حالة المنسف، فإن الطريقة الأكثر تداولاً لإعداده هي طهي اللحم مع الجميد، ومواصلة تحريك الجميد حتى (يعقِد).
هناك مَن يطهو اللحم وحده والجميد وحده، ثم يسكب اللحم في قدر الجميد. وعموماً، وبالنسبة للمنسف البيتي الذي لا تزيد كمية اللحم فيه على ثلاثة كيلوغرامات، فقد صارت ربات البيوت يؤثرن طبخ اللحم، بداية، في طنجرة الضغط، لضمان استوائه وذوبانه في الفم، قبل سكبه في طنجرة الجميد.
طقوس واجبة
للمنسف طقوس واجبة لا يعد المنسف منسفاً دون تمثلها والتقيد بها، ومنها: أكل المنسف باليد وليس عن طريق الملاعق، ولهذه الطريقة مواصفاتها التي تحتاج إلى دربة ومران وتعوُّد: يُؤكل المنسف بثلاثة أصابع من اليد اليمنى (الإبهام والسبابة والوسطى) أو بأصابع اليَد كلها، ومن العيب أن يصل الطعام إلى بطن اليد أو ظهرها، ويأكل الناس المنسف وقوفاً، ويفضّل وضع اليد اليسرى إلى الوراء أو خلف الظهر.
يبدأ تناول المنسف بعملية (الفجولة) وهي بضع حركات لتحريك الغماس سواء كان من الجريش أو الأرز، ليمتصه اللبن ويتمازج معه ويبرد قليلاً. يتم سحب كمية بسيطة من الغماس باستخدام طرف الأصابع وبعض من خبز الشراك وصناعة كرة صغيرة من الأرز والخبز واللحم، ويتم دفعها بأصابع اليد لتدخل في جوف الفم، دون أن تلمس الأصابع الشفاه. يتولى المضيف مهمة استدامة سكب لبن المنسف للضيوف بناء على رغبتهم وبعد سؤالهم.
يُراعى أثناء تناول الطعام الحفاظ على جودته ونظافته ووفرته، حيث يؤكل المنسف على طورات (جولات أو مجموعات) متتالية من الضيوف، وهي عادة درجت قديماً يتم تشارك الطبق الواحد من عدة مجموعات، في المناسبات الاجتماعية ذات الحضور الواسع، تعرف المجموعة الواحدة من الآكلين أو الضيوف بـ “لطور أو الطورة”. يوضع رأس الذبيحة مطهواً على المنسف في وضع الإعلان عن المناسبة، فيكون مرفوعاً لأعلى في الأفراح، ومتجهًا للأسفل في الأتراح (مثل العزاء). من المعيب عموماً على الضيف أن يمس رأس الذبيحة، ومن المتعارف عليه أن يتولى هذه المهمّة المضيف أو كبير القوم، نظراً للدلالة الرمزية للرأس، كما يعد قطع لسان الذبيحة وتقديمه للضيف نوعاً من التوجيب له.
ولذلك دلالة رمزية أحياناً حين كان يقدم اللسان لشاعر أو خطيب مشهود له بالفصاحة، كذلك لا ينبغي أن تُمد يد الضيف إلى اللحم في أعلى سدر المنسف أو اللحم عند جاره، لكن الرجل الكريم هو الذي يقطع اللحم من أمامه ويدفنه تحت الأرز، ليجد الآكل أو الضيف اللاحق (الطورة) شيئاً يأكله حين يأتي دوره، أو أنه يعطي اللحم لمن هو خلفه من المنتظرين في الطورات التالية ومن الأمثلة الأردنية الدارجة عن هذه الحالة المثل القائل: (اقعد خلف الرجال، وشوف ويش يمدّولك). يعاب على الضيف أن يظهر قاع الطبق (بطن السدر) لما فيه من دلالة على جشع الضيف، بل يستخدم الإدام (ما يغمس به من خبز الشراك)، ولا تغمس اللقمة كاملة بالخبز، بل طرفها فقط، ولذلك يعد في قانون الضيافة الأردني أن نقص الخبز عارٌ على المضيف، بينما نقص الغماس عارٌ على الضيف. من دلالات كرم المضيف سكب السّمن الذائب (السّمنة السائلة) أمام الضيف إضافة إلى عدد جيّد من أرغفة خبز الشراك، ومن زيادة كرم المضيف عند بعض العشائر الأردنية وضع الزُّبد (الزبدة) أمام الضيف، وذلك لأن هذه المواد الثلاثة هي مؤنة أبناء العشائر الأردنية وتحديداً القبائل البدوية لما تمثله من رمزية لأمنهم الغذائي.
يقدم المنسف في طبق دائري مفتوح كدلالة على المشاركة والمساواة، ويوضع تحته خبز الشراك الرقيق ثم الأرز أو البرغل، ويوضع فوقه اللحم ويغطّى بأرغفة خبز الشراك من الأعلى، ويقدَّم اللبن جانباً.
ومن الإضافات الفلسطينية على طقوس أكل المنسف، تزيين سدوره بالبقدونس، وضع صحون الجرجير والفجل والبصل الأخضر حول سدور المنسف.
توزيعه في بعض الأحيان بأطباق على قدر حاجة كل ضيف. استخدام الملاعق في أكله.
أما الطقس الجامع الأهم، فهو تقديم القهوة السادة لكل مَن يقوم عن سدر منسف، بحيث تُقدَّم عند المغاسل وقبل أن يعود الضيوف للجلوس، ففي المناسبات الكبرى، لا يعود معظم الضيوف للجلوس بعد تناول المنسف، بل يغادرون من فورهم، فالنقوط يدفع وهم داخلون، وهناك من أهل أصحاب المناسبة مَن يسجل كل ضيف كم دفع نقوطاً، فكله، على رأي الأردنيين “قرضة ودين”، أُنقِّط اليوم وأُنقَّط غداً.
رمزية دينية..
يرتبط المنسف برمزية دينية، فقبل آلاف السنين (وتحديداً قبل 3200 سنة)، وعندما قرر الملك المؤابي ميشع مواجهة اليهود، وطردهم من الأردن، وتحديداً من مناطق نفوذه بين ذيبان (شمال الكرك حوالَيْ 100 كيلومتر جنوب العاصمة عمّان) وحسبان (حوالَيْ 40 كيلومتراً جنوبها) وصولاً إلى نهر الأردن، ومن باب تحديهم وإظهار تمايز شعبه عنهم، أمر بطبخ اللحم مع حليبه، وهو الأمر المحرم عند اليهود، فبحسب التوراة وفي سفر الخروج الإصحاح (23) تقول آية (19): “أَوَّلَ أَبْكَارِ أَرْضِكَ تُحْضِرُهُ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ. لاَ تَطْبُخْ جَدْيًا بِلَبَنِ أُمِّهِ”.
ميشع الذي رفض استباحة الأرض والعرض، ضحّى بأحد أبنائه على أبواب قلعة مؤاب التاريخية في الكرك، ليدب الرعب في قلوب العدو، وليظهر لهم استحالة تراجُعه، ونهائية قراره حربهم حتى الموت. ثم أمر الشعب بطهو اللحم باللبن من أجل مخالفة عقيدة بني إسرائيل. تم له ذلك وتأكد للملك أن الجميع مستعد للتضحية مثله، ولخوض المعركة المصيرية بقلوب ميتة وعزائم لا تلين. انتصار ميشع على الملك العبري (عمري) خُلِّد في مسلّة ميشع الحجرية المحفوظة في متحف اللوفر بباريس.
سيّد المائدة وعنوان الكرم
يُعد المنسف سيّد المائدة الأردنية، وقد ذاع صيته ولمع في كل مناسبة ومفصل بريقه. إنه شغف لا ينتهي، وعنوان لا يفتر، يأتي السواح الأجانب، وقبل أن يسألوا عن البتراء وأم قيس ووادي رم والبحر الميت، يسألون عن المنسف. وهو مع الفلافل الفلسطينية، والكنافة النابلسية، من أهم رموز الهُوِيَّة الأردنية الجامعة.
كثير من الناس لا يعدون المنسف منسفاً إن لم يكن باللحم البلدي، والجميد الكركي. ويعيبون على مَن يطبخه مع الدجاج (منسف عاجاج ما بنفع أردنية). بعضهم نَقَله من دلالة كرم إلى مؤشر مباهاة وبذخ، بوضع رأس خروف على كل سدر، وتزيينه بالكاجو بدل اللوز، وإغراقه بالسمن البلدي، ودعوة آلاف الناس لمناسبة زفاف أو ما شابه، وذبح مائة خروف على سبيل المثال، ما يعني آلاف الكيلوات من اللحم، لا يؤكل في بعض الحالات نصفها، ومع توزيع كثير منها على الفقراء والمحتاجين، فإن بعضهم يلقي كل الكميات الفائضة من اللحم والأرز في حاويات القمامة والعياذ بالله.
وهو اليوم ليس سيد المائدة الأردنية فقط، بل وكذلك الفلسطينية، بعد عقود من انصهار الهُوِيَّتين وتمازجهما وتصاهرهما، وخلقهما ليس لهجة واحدة فقط، بل عادات واحدة، متقاربة على الأقل، وأنماط تفكير واحدة، وآلام واحدة وآمال واحدة، وفي مختلف الأحوال “جُمعة مباركة” على الجميع.