”نداء بوست“ – المتابعة والتحقيقات – وجيه حداد – دمشق:
يصعب على أي أحد في الكوكب أن يتخيل المشهد السوري الحالي، والواقع المتردي في مناطق النظام، فالحد الأدنى من الرواتب والأجور يتيح لصاحبه أن يشتري علبه سردين يوميا ،فقط لا غير، و يتيح الحد الأعلى لكبار الموظفين والحاصلين على شهادات عليا، أن يشتروا علبة طون" تونا" فقط لا غير.
ومنعا للالتباس وسوء الفهم وكي لا يقال إن السردين والطون مادتان مستوردتان، وأن أسعارهما ليست معيارية في بلد يعاني من صعوبات الاستيراد، يمكننا القول إن الحد الأدنى من الرواتب والأجور يشتري لك يومياً كيلو بطاطا بسعره الحالي، فيما يتيح لك الحد الأعلى، فيما لو كنت أستاذاً جامعياً على سبيل المثال، شراء كيلو بطاطا وكيلو بندورة، فقط لا غير، علما أننا ما نزال ضمن الأسعار الصيفية للخضار والفواكه.
ومع التقنين الإجباري الذي يعاني منه السوريون بسبب انخفاض الدخل وارتفاع الأسعار، يعانون أيضاً، من غياب السلع الرئيسية وانقطاعها المفاجئ، فالبحث عن كيلو سكر في العاصمة مثلاً يشبه البحث عن إبرة في كومة قش، ومحظوظ من يجد عبوة زيت، ليتر واحد، في أحد المحلات التجارية، رغم وصول أسعارها في سوريا إلى ثلاثة أضعاف سعرها العالمي.
وبالمثل وصل سعر كيلو الموز في دمشق إلى 20 ألف ليرة سورية، فيما كان يباع في الوقت نفسه، في الحسكة، بأقل من 4 آلاف ليرة سورية، قبل أن يسمح النظام باستيراده في الأسبوع الماضي، وفق شروط محددة لا تنطبق إلا على أسماء محددة، لا يمكن تجاوزها، ضمن منطق الحصص الموزعة من النظام على واجهاته المرتبطة به بشكل فعلي وواضح.
وكان النظام قد أوقف الشهر الماضي توزيع الدخان الوطني لأسابيع، ليختفي بشكل شبه كامل من الأسواق، وتصل أسعار القليل المطروح منه إلى أرقام فلكية، قبل أن يعاود توزيعه من جديد وبكميات محددة، لينخفض قليلا عن سعر الذروة، ويتم تصوير الأمر كانجاز اقتصادي لأزمة هم من قاموا بالتسبب فيها وافتعالها.
ويقف خلف الأزمة لكل مادة من المواد المذكورة، أو غيرها، أحد الوافدين إلى عالم المال والتجارة من أعمال الحرب، بعد أن تربعوا على المشهد الاقتصادي السوري، وباتوا يملكون مفاتيح القرار والقدرة على التحكم بالسوق السورية بالكامل، سواء بوصفهم واجهات أو شركاء لأسيادهم في الأعلى.
فالدخان الوطني على سبيل المثال يخضع للفرقة الرابعة عبر رجلها الصاعد خضر علي طاهر، المعروف بلقب أبو علي خضر ، أو أمير المعابر، ويملك حصرية التوزيع بالسعر الذي يراه مناسبا ، وغالباً ما يكون ضعف السعر الرسمي في الحدود الدنيا، بما يعود عليه بمئات الملايين يوميا. ويشكل أبو علي خضر النموذج السائد للطبقة الصاعدة في سوريا، ويفصح عن نفوذها وطريقة عملها، ومدى ارتباطها الوثيق بالسلطة، بعيدا عن حسم التبعية المباشرة له ، سواء لماهر الأسد أو لأسماء الأسد، كما يتم تداوله إعلامياً، بعد أن بات يملك عشرات الشركات الكبرى في البلاد ويحتكر سوق الدخان والاتصالات وغيرها.
و فيما يتحرك الاقتصاد السوري بأدق تفاصيله، من توزيع عبوات المياه في الأسواق، إلى أكبر الاستثمارات، على وقع تموضعات هذه الطبقة، يعزز التطويب المطلق لأيّ من أفراد هذه الطبقة قدرته على فرض الأسعار التي يريدها، ضمن حقل احتكاره، بعيداً عن معيارية الدخل السوري، أو الأسعار العالمية لها.
وكما في حال التفرد الاحتكاري، تسهم أحياناً، الصراعات القائمة بين أمراء الحرب، بسبب تعدد الولاءات والنفوذ السياسي والمالي في البلاد، بخلق المزيد من الأزمات بما يخص توفر السلع الرئيسية، أو أسعارها، أو حتى حرية تداولها.
على المشهد الرسمي تلعب الحكومة والوزارات المعنية، كما هو مرسوم لها، دور القناع لتلك الطبقة وتحاول التخفيف من وحشية سلوكها، بتبريرات الحصار وقانون قيصر، وباتخاذ سلسلة من الإجراءات لا تتعدى كونها نوعاً من إدارة الأزمات الناجمة بالأساس عن تواطؤ القرار الرسمي مع الطبقة القادمة من عالم الميليشيات والمعابر، بشهيتها المفتوحة على مزيد من نهب الشعب السوري وإفقاره.
وفي مفارقة تبدو شديدة الغرابة فإن صالات التجزئة التابعة نظريا، لوزارة التجارية الداخلية وحماية المستهلك، بحسب تسميتها الرسمية، والتي وصفها الوزير المعني قبل أيام بأنها أكبر تاجر على وجه الأرض، تشتري بضائعها من هؤلاء الأمراء بحجة كسر احتكارهم للسلع والمواد التي يسيطرون على تجارتها.
وفيما يبدو ظاهراً، وكأن هذه الصالات تهدف إلى الحد من تغول هذه الطبقة وتعمل على كسر احتكارها، إلا أنها باتت تتشارك بأسلوبها الاحتكاري معهم، عدا عن كونها تحولت لمنافذ تسويقية لهم، ليتماهى بذلك أسلوب الصالات القادم من عالم الاشتراكية مع أسلوب ومنطق أمراء الحرب، ضمن وضع فريد ومعقد يمكن تسميته "باشتراكية أمراء الحرب"، ليتوجب على المواطن السوري أن يدفع عبء النموذجين معاً.