“ننتقل إلى مرحلة جديدة في عملية إقامة منطقة آمنة من 30 كم عند حدودنا الجنوبية… سننظف تل رفعت ومنبج، وسنعمل خُطوة تِلْوَ الأخرى في مناطق أخرى” هذا كان جزءاً من خطاب ألقاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام البرلمان التركي مطلع شهر نيسان- إبريل الماضي، حديثٌ جرى وسط تصريحات أمريكية بأن الدخول في عملية عسكرية في شمال سورية سيعرض المنطقة للخطر.
تردد صدى ما قاله الرئيس التركي على شكل تصريحات رسمية وشِبه رسمية باقتراب عملية عسكرية لفرض منطقة آمنة تضمن لتركيا أمنها القومي وتسمح بإعادة جزء من ملايين السوريين الموجودين على أراضيها، سرعان ما تُرجمت هذه التصريحات على شكل تحركات ميدانية عسكرية على أرض الواقع، مترافقة مع مثيلاتها من الجانب الروسي وقوات النظام؛ حيث يُتوقع أن تقوم تركيا بالعملية في بعض المناطق الشمالية الخاضعة لسيطرة قوات “قسد” بتوافُق مع روسيا.
في ذات الفترة الزمنية يتم مفاوضة تركيا على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى حلف شمال الأطلسي الذي يقضي بضرورة موافقة الأعضاء على انضمام أي عضو جديد، وهو موقف يتواءم مع موقف روسيا التي هددت بخطوات انتقامية في حال انضمت فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، ورأت روسيا أن هذه الخُطوة التركية تستحق الدعم والثناء.
ومنذ مطلع الحرب “الروسية-الأوكرانية” كانت تركيا قد فعّلت اتفاقية مونترو التي تخوّلها بالتحكم في عبور السفن الحربية التابعة لبلدان متصارعة في حالة الحرب ضِمن مضيقَي الدردنيل والبوسفور، وكان وزير خارجية روسيا قد وصل تركيا لبحث إمكانية فتح ممرات بحرية تسمح بتصدير حبوب أوكرانيا عَبْر البحر الأسود وربما لبحث ملفات أخرى تضمن للسفن الروسية التحرك بسلام مقابل مكاسب لتركيا يتوقع أن جُلّها سيكون في سورية، في هذا الوقت توجهت سفن التنقيب التركية الأربع -بما فيها تلك التي دخلت الخدمة للتو- نحو البحر الأسود تاركةً فراغاً في البحر المتوسط، لطالما ملأته هذه السفن بمرافقة ضجيج دول المتوسط المعارِضة لتوسيع رقعة التنقيب من قِبل تركيا، خُطوة يمكن قراءتها في سياق حسن النية من الجانب التركي لإفساح المجال أمام المفاوضات على ملف الطاقة في البحر المتوسط مع بقية الأطراف التي طالما توترت معها الأوضاع على خلفية هذا التنقيب.
استعدت إسرائيل جيداً لأزمة الطاقة في الدول الأوروبية، حيث كانت قد أنشأت فرق عمل للتجاوب مع أزمة الطاقة في أوروبا، كما دخلت في صراع واضحٍ مع روسيا التي رأت في دخول إسرائيل إلى سوق الطاقة تهديداً إستراتيجياً لها منذ عام 2020. زار الرئيس الإسرائيلي تركيا وتبعه وزير خارجية تركيا إلى إسرائيل، ويبدو أن تهدئة حقيقية حصلت بين الطرفين على وقع رغبة إسرائيل بإشراك تركيا في ممرّ آمِن للغاز إلى أوروبا عَبْر أراضيها، فالبديل هو تصدير الغاز إلى مصر عَبْر الأنابيب التي تمر في سيناء والتي تتعرض لهجمات لم تتوقف منذ 2012، كما أن مد أنبوب “إيست ميد” المتفق عليه بين قبرص واليونان وإسرائيل لن يشكل استقراراً في المتوسط، حيث ستقوم تركيا بمحاولات إيقافه بكل السبل، حتى لو اضطر الأمر للتحالف مع روسيا التي تقف غير بعيد عن الخط بقواعدها في السواحل السورية، ويبقى أمام إسرائيل -المنتج والمورد- وأمام الاتحاد الأوروبي -الزبون المتلهف- أن يقوم بإشراك تركيا عازلاً موقفها عن الموقف الروسي وضامناً إمدادات ذات استدامة من الطاقة.
تريد تركيا أن تكون ممراً عالمياً للطاقة لتضمن لنفسها رافعة سياسية ودفعة اقتصادية، وهذا ما ستمنحه لها إسرائيل والاتحاد الأوروبي، وقد لا تعترض تركيا حينها على انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، ولكن في هذه الحالة لا يتوقع أن تدعم روسيا عملية تركيا في شمال سورية، بل ربما تتصاعد الأمور وتحاول روسيا منع أي عملية مرتقبة، وسيظل الغرب محتفظاً بموقفه تجاه حماية حلفائه في شمال شرق سورية فالثمن الذي حصلت عليه تركيا قد يُعتبر كافياً من وجهة نظر الغرب.
على وَقْع هذه الجولة الإقليمية والعالمية فإن النتائج قد تنعكس أولاً وأخيراً في سورية، عَبْر ترجمة حقيقية للمواقف ومساومات تُقدِّم للاعبين روافع تفاوضية تُفضي إلى اتفاقات من نوعٍ مَا، ولكن في النهاية فإن احتمالية قيام عملية عسكرية لن تتعدى أن تكون ورقة تفاوُضية في سلّة الأوراق الأخرى لتحقيق مكاسب أكبر.