لا شكَّ لديَّ ولدى الكثير من المحللين والمراقبين: أن المخططات الموضوعة للشرق الأوسط الجديد منذ أكثر من ربع قرن وتشارك فيها الدول الغربية وإسرائيل وإيران تنطوي على أهداف مريبة كثيرة، ولكن الهدف الرئيسي والأهمّ في هذه المخططات هو إيجاد وتوفير كل السبل الكفيلة بإزاحة هُموم النفوذ العربي السُّني عن دول شرق المتوسط واستبداله بالنفوذ الشيعي الإيراني الصفوي.. تطبيقاً للمثل القائل (عدو ودود أفضل من صديق لدود)…!
وبناء على ما تقدم يحقّ لنا أن نسأل هل هناك حقيقة عداءٌ بين إسرائيل وإيران؟. وهل انتهى الزواج غير الشرعي وتقاطُع المصالح المشتركة في المشاريع والأهداف والغايات بينهما؟ وهل انتهى عملياً تقديم الخدمات المتبادلة بين الطرفين المعروفين تاريخياً بعدائهما الشديد والمفضوح للعرب والمسلمين!؟ وهل حقيقة معارضة إسرائيل وواشنطن للتواجد والتمدد الإيراني في كل من سورية والعراق- ولم يكن لهم الدور الرئيسي والأكبر فيه لتحقيق جملة من أهدافهم ومخططاتهم السوداء!؟
– للإجابة على كل هذه التساؤلات المشروعة والمحيرة لا بُدَّ لنا من استحضار القليل من مجريات وأحداث الماضي حتى تصل بنا إلى يومنا هذا الذي نحن فيه الآن .!
طهران وعلاقتها بالشيطان الأصغر :
لا شك بأن قنوات الاتصال الخفية والسرية بمختلف أنواعها (الدبلوماسية والعسكرية و الاستخباراتية) هي أحياناً ضرورة مباحة وتلعب في بعض الأوقات أدواراً رئيسية في ترتيب العلاقات الدولية والأوضاع الإقليمية، وقد يبدو الظاهر في هذه الأدوار شيئاً معيناً بينما الواقع الخفي يشير إلى أشياء أخرى مغايرة تماماً عما يخطط له تجري في الكواليس أو من وراء الحجب! وهذا المنطق السياسي ينطبق تماماً على العلاقات التاريخية الإسرائيلية الإيرانية المشبوهة المتواصلة التي تجري في الظلام، منذ عهد”الشاه رضا بهلوي”وحتى إلى ما بعد وصول “ملالي قُم” للسلطة إثر قيام الخميني بثورة “1979”؛ وعلى الرغم من تمثيليات وشعارات العداوة الرنانة التي سمعناها ونسمعها كثيراً (الشيطان الأصغر؛ والموت لأمريكا والموت لإسرائيل، وشعارات المقاومة والممانعة ومحور الشر وغيرها من الشعارات) التي يضحك بها على الذقون”! وليس لها أي مردود ميداني ملموس يبرهنها أو يترجمها أفعالاً حقيقية نراها عملياً على الأرض.!
– إيران وتجارة الشعارات الكاذبة :
في الواقع إن مجريات التاريخ تقول إن إيران بُعيد ما سُمِّي بالثورة الإسلامية لجأت بخبث ومكر للمتاجرة بالشعارات الفارغة لاستقطاب مشاعر العرب والمسلمين، وكسب ودهم والتلاعب بعواطفهم للولوج إلى مجتمعاتهم تحت يافطة الإسلام والقدس.! ولكن حقيقة الأمر تُوحي بأنهم يعملون ظاهراً وباطناً وعلى كل الجبهات والميادين المريبة الدنيئة لإقامة هلالهم الشيعي وإحياء الإمبراطورية الفارسية البائدة المندثرة وهم بذلك يلتقون رغم اختلاف الأيديولوجيات مع المشروع والأهداف الصهيونية الهادفة إلى التوسع العدواني وتهيئة كل الظروف الممكنة لإضعاف وتفتيت الوطن العربي والسيطرة عليه وعلى مقدّراته وثرواته..!
عملياً: قد تماهت إيران مع الدور الوظيفي الذي أرادت لها “تل أبيب” أن تقوم به وتؤديه من خلال “ملالي قُم” والذي فرضته طبيعة وتقاطُع الأهداف والمصالح المرحلية للجانبين، وحاجة كِلا الكيانين للآخر في المحيط العربي الغني الواسع الذي يحيط بهما وسعيهما المشترك لإضعافه أكثر، واستغلال كل الوسائل والأساليب الممكنة في ذلك واستثمارها خدمة لمصالحهما التوسعية المشتركة..!
بطبيعة الحال: فإننا لا نحتاج إلى الكثير من الفطنة والذكاء لإفراغ شعارات “الملالي”المعادية لإسرائيل (الشيطان الأصغر) من مضمونها، فكل الدلائل والمعطيات تشير إلى أنها لا أكثر من شعاراتٍ وهمية رخيصة تطفو على السطح ولكننا عندما نغوص في الأعماق وندخل الدهاليز والغرف السرية المظلمة نكتشف أن هناك أنفاقاً وأوتوسترادات كثيرة واسعة تصل طهران بتل أبيب تخفي بين جنباتها تاريخاً طويلاً من التعاون والقواسم المشتركة التي نَسجَتْ وحاكت المؤامرات الخبيثة للعالم العربي والإسلامي !
حقيقة العلاقات العسكرية والاستخباراتية بين إيران وإسرائيل :
في الواقع : وكما تشير كل الدراسات والتحقيقات وتسريبات المصادر المختلفة: أن خلف الأبواب المغلقة يكمن الكثير من الأسرار. فالكيان الصهيوني المغتصِب يعتبر المَصدر الأول الموثوق للسلاح إلى إيران؛ بين عامَيْ “1981“ و”1986“؛ فقد زودت إسرائيل في عام”1981” أي بعد عام واحد على اندلاع الحرب “العراقية – الإيرانية” بصفقات الأسلحة والعتاد الضخمة وقطع الغيار للطائرات الأمريكية المقاتلة. وإرسال إسرائيل أعداداً من الخبراء للإشراف على تدريب الجيش الإيراني ولا تخفى علينا أيضاً فضيحة “إيران غيت” إيران “كونترا” عام “1986” التي قامت فيها إسرائيل خلال الحرب العراقية بدور الوساطة مع واشنطن لبيع وتوريد أسلحة أمريكية متنوعة لطهران؛ مقابل الإفراج عن بعض الرهائن الأمريكيين لدى “حزب الله الإرهابي” في لبنان، ناهيك عن
الكثير من المصالح الاقتصادية والتجارية التي لم تتوقف بين البلدين بطرق غير مباشرة وعَبْر الوسطاء كبيع النفط الإيراني وتوريد إسرائيل معدات الميكنة الزراعية وتقنيات التجسس لإيران؛ وكما هو معروف أيضاً أن هذه العلاقة هي جزء لا يغيب عنها التعاون الاستخباراتي “الإيراني الإسرائيلي”، حيث قدّمت إيران المساعدة المعلوماتية حينها “لتل أبيب”في عملية “(أوبرا)” “بابل” التي أدت إلى تحقيق إسرائيل النجاح في تدمير مفاعل” تموز” النووي العراقي في “1981” لمنع العراق من تطوير أية أبحاث للطاقة النووية..!
عملياً: إن القواسم المشتركة بين المشروعين الفارسي والصهيوني كثيرة ومتشابهة الأهداف و الأساليب، فكِلا الطرفين يكنّ العداء الشديد للعرب والمسلمين (السُّنة)؛ ويحاول إضعافهم وتفريقهم وإخضاعهم والوصول إلى تحقيق إستراتيجياته وطموحاته وأحلامه التوسعية باستغلال المال والجنس والمخدرات بأنواعها وتوظيفها لغاياتهم التوسعية فبني”صهيون”يعتبرون أنفسهم شعب الله “المختار” وحدودهم التي منحها -الله- لهم من الفرات إلى النيل.! وأولئك المجوس أيضاً يريدون وكما أسلفنا إعادة أمجاد فارس وإحياءها وبعثها من جديد على حساب الأمن العربي وحدوده..!
حقيقة معارضة إسرائيل للوجود والتمدد الإيراني في سورية والعراق:
بعد الاجتياح الأمريكي وسقوط بغداد في نيسان عام “2003”،وبغض النظر عن اختلاف الكثيرين أو اتفاقهم مع سياسة الرئيس العراقي الراحل “صدام حسين”،لكن وبدون أي شك: لا يستطيع عاقل أن ينكر عداوة نظام “صدام حسين” الشديدة “لإسرائيل” وتخوف “تل أبيب” من استمرار حكمه! وبالمقابل لا يستطيع عاقل أن يُلغي أو يشكك أيضاً بدور نظام “صدام ” ووقوفه شِبه الوحيد على الساحة العربية في مواجهة المشروع الإيراني الأيديولوجي التوسعي في المنطقة العربية والخليج لأكثر من “20” عاماً، وبإسقاط حكمه بتعاون مشبوه بين إيران و”الشيطان الأكبر والأصغر” جُعِلَ الطريق من قِبل واشنطن وإسرائيل أمام طهران وميليشياتها معبداً للتمدد السافر في “بغداد ودمشق ولبنان واليمن” والولوج إلى عمق المنطقة العربية” والعمل بشتى الأساليب والأشكال: على مشروع تصدير الثورة الخمينية إنْ كان من خلال القوة الناعمة؛ أو بتطبيق مفهوم “عسكرة التشيع”أي تبني تجنيد وتسليح ميليشيات محلية ذات منشأ طائفي شيعي تستطيع هذه الميليشيات”الولائية” بمرور الزمن من بسط نفوذها السياسي والعسكري والضغط على الحكومات لتنفيذ أجندة وأهداف إيران في بلدانهم؛ والمثال على ذلك”حزب الله” في لبنان و”الحوثيون”في اليمن؛ والحشد الشيعي الشعبي في العراق؛ وعشرات الميليشيات الولائية العابرة للحدود في سورية..!
إذا كان “لواشنطن وإسرائيل وإيران”المصلحة المشتركة في تغييب “العراق” عن الدور الفاعل والقوي في قضايا الأمة العربية والقضاء على “الحكم السني” القوي في هذا البلد وخاصة أن نظام”صدام حسين” شئنا أم أبينا؛ كان يعتبر الطرف العربي الأكثر جدية في تهديد أمن “إيران وإسرائيل” والوقوف في وجه مشاريعهما المشتركة بعد تحييد “مصر” نهائياً من الصف العربي وتكبيلها باتفاقيات “كامب ديفيد”.!
أما في سورية وللمفارقة! ورغم وحدة الهدف وهو (إخضاع وإضعاف السُّنة) فالأسلوب هنا اختلف فمن تعاون إيراني مع (الشيطان الأصغر والأكبر) لإسقاط نظام حكم (صدام حسين) ؛ إلى حدوث نوع آخر من التعاون هذه المرة وهو العمل على تثبيت نظام حكم آل الأسد (بشار الأسد) لأنه يُعتبر وكما بات معروفاً: حامي حدود وأمن إسرائيل، ولذلك قامت تل أبيب وواشنطن طيلة سنوات خلت بغض الطرف عن تدفق “حزب الله” وعشرات الميليشيات الإيرانية بمختلف مسمياتها وراياتها إلى سورية للقضاء على الثورة وإنقاذ نظام الأسد، ومنع سقوطه المدوي وبالتالي فلن تستطيع إسرائيل مطلقاً على الرغم من كل تمثيليات ومسرحيات القصف ومئات الغارات الجوية التي تنفذها منذ سنوات لضرب التموضعات الإيرانية والحدّ من تغلغلها وتمددها على الجغرافيا السورية أن تقنعنا أو تبرهن لنا بعدم وجود أية ارتباطات سرية وثيقة ومصالح إستراتيجية مشتركة بينها وبين إيران.!
ختاماً.. لا بُدّ لنا كعرب ومسلمين أن نعلم علم اليقين أن إيران مستعدة ومهيَّأة أيديولوجيّاً للتفاعل مع الغرب والتقارب العلني مع إسرائيل أكثر مما هي مهيَّأة لأيٍّ من أنواع التفاعل الإيجابي مع العرب؛ ولنعلم أن عداء طهران وتل أبيب هو عداء إعلام وشعارات فارغة؛ إذ إنه لا وجود لنزاع إقليمي وحدودي بينهما عكس العرب الذين لهم نزاعات إقليمية وحدودية وأراضٍ محتلة من قِبل الطرفين، لذلك فإن كُلاً من تل أبيب وطهران يلتقيان مصلحيّاً وينظران بعين الريبة والشكّ والعداوة لجيرانهم العرب..!!