لعلّك سمعت هذه العبارة كثيراً، وهي تتردّد خلال الأسابيع الماضية، في إشارة أراد بها الخبراء والمعلقون الرياضيون تحليل سلوك المنتخب الإيراني المشارك في بطولة كأس العالم المقامة في قطر. وبالفعل بمراجعة سلوك الإيرانيين الكروي في المباريات الدولية الأخيرة، ستجدهم يفضّلون تسجيل الأهداف بعد نهاية الوقت الرسمي للمباراة، وقد أفلحوا بذلك مرات عدة، غير أن آخر محاولاتهم أمام المنتخب الأميركي مُنيت بالفشل.
وكما في الرياضة، في السياسة أيضاً وبسط النفوذ، تجعل الذهنية الإيرانية من نفسها في موضع المختلف الذي يريد الانتصار بطريقة غير متوقعة.
ولكن ماذا يعني هذا المزاج المعقّد؟ علاوة على ما فيه من مخاطرة بخسارة اللعبة كلها، فهو يعكس استراتيجية إيرانية تريد إنهاك الخصم في وقت اللعبة الأصلي، حين يكون اللعب نظيفاً، وبعد أن يرهق اللاعبون في الفريق الآخر، يرفع الإيرانيون من نشاطهم إلى أقصى درجاته، ليخترقوا خطوط دفاع الفريق ”العدو“.
لا علاقة لمدربهم البرتغالي كارلوس كيروش بذلك، فهذا اللعب هو قرار من اللاعبين أنفسهم، وهو مما يختص به العقل الإيراني في هذا الزمن. تجدهم في البلدان التي يحتلونها، وكذلك في تعاملهم مع الميليشيات المسلحة التي تتبع لهم، أو في صراعهم غير النظيف، من جانبيه، مع الغرب حول مشروعهم النووي.
يعتقد الإيرانيون أن اللعبة كانت قد انتهت حين سقط عرش كسرى في معركة القادسية بتخطيط وقيادة مباشرة من الخليفة عمر بن الخطاب من عاصمة الدولة العربية الإسلامية الأولى، المدينة المنورة، وهم مؤمنون بأن كل ما جاء بعد تلك اللحظة هو وقت ضائع يجب أن يربحوا فيه حربهم ضد العرب.
أسسوا لإسلام يشبههم، يختلف عن إسلام القرآن الكريم والرسالة التي بشّر بها النبي العربي، فتلك النسخة لا تناسب العقلية الفارسية، نسخة يتساوى فيه العربي مع العجمي، أمر معقّد بالنسبة إليهم، وهم الذين يستحضرون عهود الغطرسة الساسانية المندثرة التي ترى العرب مجرّد رعاع تحت حكمهم واحتلالهم العسكري، كلما سنحت لهم سانحة.
بتمشيطهم للمجتمعات العربية، ومحاولة فرض التشيّع بالقوة، يعتقدون أنهم يستدركون ما فاتهم من وقت في الماضي، وأن الوقت الضائع الآن كفيل بتحقيق طموحاتهم، وقلب عقائد السوريين والعراقيين واللبنانيين واليمنيين وغيرهم، يريدون أن يكرروا الفتح العربي من جديد، بفتح فارسي يرتدي قناع الإسلام.
ولو بقيت تجادل سياسياً إيرانياً من أتباع الولي الفقيه، سنين طويلة، لن يقتنع منك بأن ما تفعله إيران اليوم لا فرصة له كي ينجح، وأنه بالفعل وقت مستقطع ستكون نتيجته الخسارة لإيران وحدها.
انظر ماذا خسر الإيرانيون بلعبهم في الوقت الضائع؛ بنوا جداراً كبيراً من العداء بينهم وبين شعوب المنطقة، وأضروا بالشيعة والفكر الشيعي أكثر من أي مرحلة مرّت في التاريخ. ولذلك يحاول العقلاء من الشيعة العرب معالجة ذلك قبل فوات الأوان.
ولا أنسى تلك العبارات الدقيقة التي انتقاها في العام 2012 الصديق الراحل العلامة هاني فحص حين حضر إلى القاهرة للمشاركة بالمؤتمر التشاوري الأول الذي أعددناه للنخب السورية، وافتتح كلامه بالقول: ”جئتُ أصحح خطأ طائفتي“، الأمر ذاته فعله في نفس اليوم وزير الثقافة الإيراني المعارض والمنفي والمحكوم بالإعدام غيابياً سيّد عطاء الله مهاجراني، الذي لجأ إلى نزار قباني كي يقول: إن الثقافة العربية ضرورة وحاجة لكل المسلمين وللعالم أجمع، وأن النهج الإيراني بدعم الديكتاتورية والقتل وتمزيق الدول العربية نهج خاطئ وشيطاني.
اللعب في الوقت الضائع، لا ينطوي على المخاطرة وحدها، بل إنه يعكس انعدام القدرة على اللعب في البيئة الطبيعية للتفاعل مع الآخر، وارتداد كل ما تحمله النفس من طاقة ومعرفة على ذاته، ومن ثم محاولة الانتصار بوهم توافر القوة.
هكذا تعتبر إيران أن قوتها لا تقهر، وفي واقع الأمر أنها لم تجرّب تلك القوة بعد، حتى في حربها مع العراق في ثمانينيات القرن الماضي، استعانت بالإسرائيليين سراً، أما في حروبها معنا اليوم، فهي تستعين بأذرعها من غير الإيرانيين، من مرتزقة وجدوا في المال الإيراني وفي التحريض الإيراني فرصة لإنقاذ أنفسهم من الظروف التي جعلت الأنظمة الجميع يعيشها على اختلاف مذهبه ومشربه. ولكن تلك الأذرع ذاتها بدأت بالانقلاب على إيران، ولنا في ما يجري في العراق خير مثال. ويكفي أن تشاهد مقاطع الفيديو التي انتشرت أمس واليوم لاحتفالات العراقيين بانتصار المنتخب الأميركي على نظيره الإيراني لتعرف أين وصلت الأمور، والقادم أكبر.
تشتري إيران العقارات في سورية، لأنه تدرك أنها تلعب في الوقت الضائع، وأن شيئاً ما سيحدث بعد صافرة النهاية، وحينها سيقال لها أنت قوة احتلال وعليك أن تخرجي، وهي تستعد لتلك اللحظة لإبراز ملكيتها لتلك العقارات.
كذلك تفعل في المقامات والمزارات الملفقة التي تبنيها، حتي حين تجيء تلك اللحظة ولا تكون إيران موجودة فيها على الأرض، يكون بوسعها الادعاء بأن لديها إرثاً شيعياً في الدول التي تحتلها، والتي سهّل لها الحلف الغادر بينها وبين الغرب مهمة غزوها.
لكنه يبقى وقتاً ضائعاً. وبعد قليل ستجرّ إيران أذيال الخيبة كم فعلت في الدوحة أمس، وستجد الأرض أصحابها الذين لن يتذكروا من إيران سوى قبح ما تركت وراءها وعنذاك سيكون أول ما تفعله الشعوب تنظيف الساحة من تلك البشاعة، حينها ستخرج إيران من الملعب العربي وتعود إلى ”السرداب“.
Author
-
إعلامي وكاتب سوري يقيم في ألمانيا - مدير تحرير نداء بوست، صدر له العديد من الكتب والأفلام الوثائقية والبرامج الحوارية