المصدر: فورين بوليسي
ترجمة: عبد الحميد فحام
بقلم: يعقوب جريجيل
في بداية عام 2022، بدا أن مستقبل أوروبا في أيدي كل من برلين وموسكو فقد أصبح هذان البلدان هما مَن يحكم مصير أوروبا. لكن حرب روسيا ضد أوكرانيا غيّرت الخريطة الجيوسياسية للقارة: فقد خرج الألمان والروس من المعادلة، وظهر الانتعاش على البريطانيين والبولنديين، وعاد الأمريكيون من جديد – على الأقل في الوقت الحالي.
لقد ساهم الاقتصاد الألماني بتشكيل سياسات الاتحاد، خاصة بعد الأزمة المالية لعام 2008. وقد تمّ انتقاد قرارات برلين -بشأن الهجرة، والطاقة، والسياسة المالية، والدبلوماسية- ولكن قلّة قليلة من الأوروبيين كانوا قادرين على معارضة أكبر اقتصاد في القارّة. في الوقت نفسه، أعادت روسيا إدخال نفسها في السياسة الأوروبية من خلال مزيج من القوة العسكرية والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الاتحاد وإمدادات الطاقة.
وبعد اتّباع سلوك -طويل الأمد- في الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، كان القادة الألمان حريصين على القيام بأعمال تجارية مع موسكو. حيث أصبحت ألمانيا أفضل عميل لشركة غازبورم (Gazprom)، وزوّدت الاقتصاد والجيش الروسي بالتكنولوجيا الحيوية، وأمَلَت أن تردّ موسكو بالمثل بسلوك جيد.
بدت الولايات المتحدة، أعظم صانع للسلام في أوروبا في القرن العشرين، أقل اهتماماً بالقارة. كان التصور بأن أوروبا كانت النجاح الجيوسياسي العظيم لحقبة ما بعد الحرب الباردة يعني أن واشنطن يمكن أن تركز اهتمامها في مكان آخر.
وقد أدّت حروب الولايات المتحدة منذ 11 أيلول/ سبتمبر إلى تحويل انتباهها ومواردها بعيداً عن أوروبا. أخيراً، أدّى صعود الصين إلى تحويل منطقة المحيط الهادئ إلى أولويتها الرئيسية: فقد انقلبت إستراتيجية الولايات المتحدة إلى سلسلة مكوّنة من آسيا أولاً، وأوروبا ثانياً.
الآن، تعيد الحرب الروسية في أوكرانيا واستجابة ألمانيا الخجولة لها تشكيل رقعة الشطرنج الأوروبية. إن الدولتين الطامحتين لأن تكونا حكماً لمصير أوروبا في القرن الحادي والعشرين، وهما روسيا وألمانيا، يشهدان تلاشياً في أدوارهما- فالأولى من خلال عدوانها على الأوكرانيين والأخيرة من خلال معارضة دورها وفضحه من قبل معظم الأوروبيين الآخرين.
تعمل بريطانيا وبولندا، إلى جانب عدد قليل من دول أوروبا الوسطى ودول البلطيق، على ملء الفراغ من خلال قيادة نهج الغرب تجاه الغزو الروسي. والولايات المتحدة، وإنْ كانت على مضض، تضع المزيد من القوات على الحدود الشرقية لأوروبا وتزيد ببطء شحناتها من الأسلحة إلى أوكرانيا.
روسيا هي الخاسر المباشر. قبل غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، كانت روسيا تسير على طريق تدريجي لاستعادة مستوى نفوذها على أوروبا الذي لم تشهده منذ نهاية الحرب الباردة. كانت موسكو تتدخل علناً في السياسات المحلّية للعديد من الدول الأوروبية من خلال تمويل الأحزاب السياسية الشعبوية، ونشر المعلومات المُضلّلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومقدمي الأخبار الذين يديرهم الكرملين، وعن طريق تمويل مجموعة من القادة الأوروبيين السابقين. أصبحت روسيا مورداً لا غنى عنه للطاقة للعديد من الدول الأوروبية، مما أدى إلى تغذية الثروة الاقتصادية الألمانية بالغاز الرخيص. ومن خلال القوة الغاشمة، عادت روسيا إلى الظهور في منطقة البحر الأبيض المتوسط ، وسيطرت على تدفُّق الهجرة الجماعية في سورية وشمال إفريقيا.
من خلال الدفاع عن بلادهم، أوقف الأوكرانيون الزحف الروسي باتجاه الغرب في سعيها لتكون قوة عظمى في أوروبا. فلقد فشلت محاولة روسيا لغزو أوكرانيا عسكرياً واستعادة وضعها الإمبراطوري في أوروبا حتى الآن.
علاوة على ذلك، جعلت جرائم الحرب التي ارتكبتها روسيا من الصعب حتى على مؤيديها الأوروبيين الودودين الدفاع عن مكانة روسيا في أوروبا. فقط الشخصيات التي فقدت مصداقيتها منذ فترة طويلة -مثل المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، الذي اكتسب ثراءً من الأموال الروسية- يمكنه الاستمرار في الدعوة علناً لاستعادة العلاقات الجيدة مع موسكو.
لقد تركت الحرب روسيا معزولة في أوروبا. لكن ألمانيا ليست أفضل حالاً، حيث حلّت محلّها دول لم تستطع منافستها اقتصادياً لكن هذه الدول تقود الآن الرد الأوروبي على روسيا.
أولاً، تفتقر ألمانيا إلى السلطة الأخلاقية. تمّ التعرّف أخيراً على عدم الرغبة في تسليح الأوكرانيين كعلامة على الضعف الأخلاقي في مواجهة الوحشية الروسية بدلاً من سياسة الامتناع الحكيم الذي يؤدي إلى الاستقرار. على الرغم من أن المستشار الألماني أولاف شولتز قد وعد بزيادة كبيرة في الإنفاق الدفاعي، فإن ألمانيا تتردد في توفير أسلحة ثقيلة لكييف.
قد يكون الخوف من انتقام روسي أحد الأسباب، لكن العالم لن ينسى أن إستونيا الصغيرة -التي تم تحديدها مراراً وتكراراً في موسكو كمرشح آخر للاستيلاء الروسي- على استعداد للمخاطرة بأكثر بكثير من ألمانيا.
على الأرجح، تواصل القوى المحلية القوية في ألمانيا تفضيل استرضاء روسيا وشراء الغاز الرخيص.
ثانياً، بسبب سياساتها الأخيرة، حرمت برلين نفسها من كونها حكماً جديراً بالثقة في السياسة الأوروبية. على وجه الخصوص، على مدى العقود القليلة الماضية، اتبعت ألمانيا سياسة موالية لروسيا، تسعى إلى الشراكة مع موسكو وتجاهل مصالح دول البلطيق ووسط أوروبا. لقد كشفت الحرب الحالية إفلاس هذا النهج الألماني بطريقة عنيفة ومأساوية. علاوة على ذلك، فإن قرارات برلين الأحادية التي لا تتوقف – سواء بشأن الغاز الروسي أو الهجرة – لم تخلق صداقات كثيرة في أوروبا. أمام برلين طريق طويل لتقطعه لإعادة بناء بعض مظاهر السلطة الدبلوماسية في أوروبا.
فرنسا أيضاً في موقف ضعيف فقد فشلت جهود الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإقناع بوتين بتغيير نواياه.
وبالنظر إلى الماضي، بدوا في أحسن الأحوال ساذجين وفي أسوأ الأحوال يخدمون أنفسهم، مهتمين بالترويج لدور فرنسي كوسيط مع موسكو على حساب أوكرانيا.
كما أبعدت فرنسا نفسها عن القوى الأوروبية الأخرى، مثل إيطاليا: فمنذ تدخُّل فرنسا الكارثي في ليبيا عام 2011، يواصل البلدان دعم الفصائل المعارِضة هناك.
أخيراً، فإن الرغبة الدائمة الفرنسية في أن تصبح اللاعب الأمني الأساسي في أوروبا وتقليص دور الولايات المتحدة في القارة – التي تم صياغتها في التعبير الملطف الدبلوماسي لـ “السيادة الأوروبية” – قد أصابت مرة أخرى الواقع الصعب المتمثل في أنه بدون الولايات المتحدة، فإن الأوروبيين يتركون الاتحاد تحت رحمة الخلافات داخل أوروبا وتحت رحمة القوى الخارجية، مثل روسيا.
كما أن الهجوم الروسي على أوكرانيا يخلق فرصة للمملكة المتحدة وبولندا لإظهار القيادة. فحتى بداية الحرب، كان هذان البلدان في موقف حَرِج بالنسبة للأوروبيين بسبب أخطائهما المزعومة المتمثّلة بالـ(بريكست) وهو لفظ يشير إلى سياسة بريطانيا للخروج من الاتحاد وكذلك السياسة الداخلية المحافظة لبولندا، مما جعلهما في موقع يشبه حال الولايات المتحدة سابقاً.
ولقد اعتبر الأوروبيون والأمريكيون التقدميون أن كِلا البلدين ليسا على صواب، حيث عارضت بريطانيا المزيد من التكامل السياسي والاقتصادي مع بقية أوروبا، وطبقت بولندا سياسات اجتماعية محافظة ومقاومة لنموذج موحَّد للديمقراطية الليبرالية.
كانت بريطانيا من أوائل الدول التي قامت بشحن كميات كبيرة من الأسلحة المضادة للدروع إلى أوكرانيا في أواخر كانون الثاني/ يناير. وتقوم بولندا أيضاً بتزويد الأسلحة، بما في ذلك الدبابات، بينما تعمل كمركز لوجستي للإمدادات الغربية وتستضيف عدة ملايين من اللاجئين الأوكرانيين. سافر رئيس الوزراء البولندي ماتيوز مورافيكي ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بشكل منفصل إلى كييف في عرض للدعم.
(الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، وهو شريك مقرب من شرودر وأحد أقوى مؤيدي روسيا في برلين، تم رفض دعوته بشكل مفهوم من قِبل كييف).
أخيراً، عادت الولايات المتحدة- على الأقل في الوقت الحالي. أعادت حوالَيْ 20 ألف جندي إلى أوروبا، معظمهم إلى دول خطّ المواجهة الشرقية لحلف شمال الأطلسي: رومانيا وبولندا ودول البلطيق. تستمر الأسلحة في التدفق إلى أوكرانيا.
كما سافر الرئيس جو بايدن إلى بولندا، ومن الواضح أنه لم ينتقد السياسات المحافظة لحكومة وارسو. وفي الوقت الحالي على الأقل، قررت إدارة ديمقراطية أن مهاجمة حليف لسياسات لا تتماشى مع الليبراليين التقدميين تؤدي إلى نتائج عكسية ولا تؤدي إلى تعزيز الأمن الإقليمي.
ومع ذلك، هناك شك بشأن ما إذا كانت الولايات المتحدة ستعيد تأكيد نفسها على أنها الحكم الرئيسي لأوروبا.
كانت إدارة بايدن تأمل في إعادة صياغة النهج الذي اتخذه أوباما، والذي كان يقضي بالتعاقد مع شريك داخلي موجود في الاتحاد ليجاري التوازنات الإقليمية بينما تعيد الولايات المتحدة العلاقات مع منافسيها. في أوروبا، كان هذا يعني منح ألمانيا عباءة الزعيم الإقليمي مع إعادة العلاقات مع روسيا. مثل هذا النهج هو الآن إشكالية، إن لم يكن مستحيلاً.
لا تتمتع ألمانيا بسلطة على مستوى القارة لقيادة أوروبا بعد عقود من السياسات الفاشلة والموقف الأخلاقي المفلس من الحرب الروسية. ولا توجد طريقة لإعادة العلاقات مع روسيا إلا بالتخلي عن كل من أوكرانيا وحلفاء الناتو الشرقيين.
في النهاية، فإن المنافسة على الحكم في أوروبا -قوة أو مجموعة من القوى التي تقرر الديناميكيات السياسية للقارة- مفتوحة على مصراعيها. وبطبيعة الحال، فإن بطل اليوم هو شعب أوكرانيا الباسل.
لكن الدور الذي لعبه الأوكرانيون على المستوى الجيوسياسي الأكبر كان يتمثل في تسليط الضوء تماماً على حقيقة أن الطامحين الرئيسيين في الماضي، روسيا وألمانيا، غير مناسبين بشكل خاص لهذا الدور. لا تزال الولايات المتحدة قوة لا غنى عنها، ولكنها تحتاج إلى العمل من خلال نظرائها الأوروبيين.
يبقى أن نرى ما إذا كان بايدن على استعداد لوضع رهاناته على بريطانيا وبولندا وحلفاء الناتو الآخرين الذين يدافعون الآن عن الأمن الأوروبي ضد روسيا، ولكنهم ليسوا في طليعة المشاريع السياسية التي يفضلها حزب بايدن، وإلى أي مدى ستَحْذُو الدول الأوروبية الأخرى حَذْو الولايات المتحدة.