نداء بوست – محمد الشيخ
رسائل روسية مدادها الصواريخ والقذائف، ولوحها المراكز الحيوية ومخيمات النازحين، أبت روسيا أن ترسلها للعالم دون أن تمهرها بدماء مجموعة من المدنيين، وحرصت أن تكون في مناطق ذات تأثير على الجانب التركي.
هكذا بدا المشهد في محافظة إدلب شمال غربي سوريا خلال الساعات القليلة الماضية، حيث صعدت قوات النظام وروسيا من قصفها للمنطقة بشكل كبير، في خرق هو الأبرز بعد حادثة استهداف معسكر لـ"الجبهة الوطنية للتحرير" في "جبل الدويلة"، أواخر شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
وبدأت جولة التصعيد هذه، باستهداف قوات النظام المتمركزة في "الفوج 46" مشفى "المغارة" في مدينة "الأتارب" غرب حلب، بقذائف المدفعية الثقيلة وراجمات الصورايخ، ما أدى إلى سقوط 7 ضحايا مدنيين، بينهم طفل وإمرأة، وإصابة 15 آخرين، جميعهم من الكادر الطبي والمراجعين، إضافة إلى خروج المشفى عن الخدمة بشكل كامل.
وعقب ساعات من المجزرة، أطلقت البوارج الروسية المتمركزة قبالة سواحل مدينة اللاذقية صاروخاً بالستياً باتجاه منطقة المخيمات في بلدة "قاح" بريف إدلب الشمالي، ما أدى إلى إصابة مدني كان يعمل في رعي الأغنام، ونفوق عدد من رؤوس الماشية، فضلاً عن حالة الهلع والخوف التي انتابت الأهالي.
وتلا ذلك الاستهداف، قيام الطائرات الحربية الروسية بشن 7 غارات جوية على منطقة "سرمدا" شمال إدلب الواقعة على الشريط الحدودي مع تركيا، استهدفت معملاً للإسمنت، وموقفاً للسيارات قرب معبر "باب الهوى" الحدودي، إضافة إلى محطتي وقود، ما أدى إلى سقوط ضحية من المدنيين، وأضرار مادية كبيرة.
وتزامنت هذه الحملة مع قيام الطائرات التركية بشن غارات جوية في منطقة شرق الفرات، -هي الأولى منذ تعليق عملية "نبع السلام" عام 2019-، استهدفت مواقع للنظام و"قسد" على محور "عين عيسى" بريف الرقة الشمالي، وذلك رداً على تنفيذ محاولة تقدم نحو خطوط التماس، وتعبيراً عن جدية الموقف التركي بتطبيق بنود اتفاق "سوتشي" عسكرياً، بعد فشل روسيا بتنفيذه، وانسحاب "قسد" سلمياً.
ومن المحتمل أن يكون هذا التصعيد مرتبطاً بفشل الجولة التي أجراها وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" إلى دول الخليج العربي قبل أيام في إحداث خرق بشأن عودة النظام السوري إلى مجلس الجامعة العربية، وإقناع العواصم الخليجية بإعادة التطبيع معه، أو تحصيل أي دعم مالي لاقتصاده المنهار من خلال البدء بعملية إعادة الإعمار.
واعتادت روسيا خلال السنوات الماضية على تحصيل المكاسب من خلال الضغط على المدنيين بالقصف أو باستخدام حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن ضد أي مشروع قرار يتعلق بسوريا، الأمر الذي يجعل من احتمالية أن يكون التصعيد الأخير رداً على الموقف الغربي الثابت تجاه الانتخابات الرئاسية القادمة ورفض رفع العقوبات عن النظام قبل تطبيق القرار 2254 أمراً وارداً.
أسباب التصعيد
أكد الباحث في مركز "جسور" للدراسات "وائل علوان" أن التصعيد في إدلب يرتبط بشكل مباشر بتطورات شرق الفرات، وكذلك بالملفات السياسية حول القضية السورية بشكل عام، مضيفاً أن المرحلة الراهنة تشهد تحالفات إقليمية ودولية، وبدء اتضاح معالم السياسة الأمريكية في المنطقة، حيث تعمل واشنطن على خلق توازنات في مختلف الصراعات، بشكل مشابه لما حدث في ليبيا.
وأضاف "علوان" في حديث لموقع "نداء بوست" أنه بناء على تلك المعطيات، سعت روسيا إلى إيجاد متنفس للنظام إلا أنها إلى الآن عجزت عن ذلك، بسبب السياسة الأمريكية الداعمة لاستقرار مناطق شمال غربي سوريا من خلال دعم الدور التركي فيها.
من جانبه، رأى الكاتب والباحث "حسام محمد" أن أسباب التصعيد كثيرة منها المحلي السوري، ومنها الإقليمي، وأيضاً الدولي، معتبراً أن ما حصل في إدلب يمكن تصنيفه ضمن الرسائل الدولية، ومؤشر على عمق الخلافات، ووصول المفاوضات السياسية إلى طريق مسدود، وبهدف تدمير البنى التحتية ونسف أي مظاهر للاستقرار.
ويرجح "محمد" وقوف إيران وراء عملية التصعيد ورضا روسي عن ذلك، وأن الضربات التي استهدفت مدينة "كيليس" التركية قبل أيام نفذتها قوات النظام بأوامر إيرانية، مشيراً إلى أنها تزامنت مع زيارة وزير خارجية الإيراني إلى تركيا، وإعلان الرئيس التركي عند طلب السعودية شراء مسيرات تركية، و"هو ما تخشاه طهران في اليمن، بعد أن رأت ما فعلته "بيرقدار" في سوريا.
وأشار إلى الخلافات "الروسية – التركية" شرق الفرات، وعدم التزام موسكو بإخراج "قسد" من المنطقة الحدودية، بموجب اتفاق "سوتشي"، واتهام روسيا لتركيا بعدم الإيفاء بالوعود المتعلقة بملف الطرق الدولية، ومحاربة التنظيمات "المتشددة".
يضاف إلى ذلك، التوافق "العربي – التركي" الأخير، وخاصة مع السعودية ومصر وتبادل الرسائل الإيجابية، وتحقيق أنقرة المزيد من النجاحات، في حين ترواح موسكو في مكانها، وسط غضب أمريكي تجاهها، والذي ظهر جلياً حين وصف بايدن بوتين بـ"القاتل"، وذلك وفقاً لما قال "محمد" لـ"نداء بوست".
وفي هذا السياق، يعتقد العميد الركن "فاتح حسون" أن التصعيد الحالي غير مستغرب إلا أنه يختلف عما سبقه من ناحية التوقيت، ووقع على ضوء التوتر الأخير بين الدبلوماسية الروسية والأمريكية بسبب تصريحات "بايدن" ضد "بوتين"، "الأمر الذي شكل ردة فعل لدى موسكو بدأت باستدعاء سفيرها من واشنطن ولن يكون تنتهي في التصعيد شرق الفرات وغربه".
وأردف "حسون" في حديث لموقع "نداء بوست" أن التصعيد "الروسي – الإيراني" في إدلب يأتي ضمن جملة من المعطيات، التي قد يكون احتمالية تدخل تركيا ضد جماعة "الحوثي" في اليمن جزءاً منها، إضافة إلى كونه رد على قصف الطيران التركي لمناطق "قسد" والنظام قرب "عين عيسى"، ومحاولة روسية لنزع زمام المبادرة في تلك المنطقة.
ونوه "حسون" إلى أنه لا يوجد صراع بين "قسد" والنظام بـ"المعنى الحقيقي المتعارف عليه"، إنما تعامل بطريقة ندية، مشيراً إلى أن التنسيق بين الطرفين على أعلى مستوياته منذ فترة طويلة جداً، وهناك ملفات مشتركة فيما بينهما خصوصاً فيما يتعلق بالمفخخات التي تستهدف مناطق سيطرة الجيش الوطني بريف حلب بين الحين والآخر.
أكثر من مجرد تصعيد
أكد المتحدث الرسمي باسم وفد المعارضة إلى محادثات أستانا "أيمن العاسمي" أن القصف الروسي الذي بات يتركز على المناطق ذات الأهمية الاقتصادية أو البنى التحتية في الشمال السوري "أمر يحتاج إلى تفسير عميق" أو أكثر من كونه مجرد تصعيد عابر أو استهدافات عشوائية.
واعتبر "العاسمي" في حديثه لموقع "نداء بوست" أن هذا القصف يرتبط بشكل مباشر بزيادة الخناق على "الأسد" وداعميه، مشدداً على أن استهداف معبر "باب الهوى" الممر الوحيد لعبور مساعدات الأمم المتحدة إلى إدلب هو مقدمة لإغلاقه، وتحويل مسار دخول المساعدات إلى النظام.
ودعا المتحدث إلى التحرك العاجل على جميع المستويات بما في ذلك العسكرية والإعلامية، والعمل على إبراز الجرائم الروسية في شمال غربي سوريا وإيصالها إلى المجتمع الدولي.
وتهدف روسيا من قصف المشافي والمنشآت الخدمية في الشمال السوري، في وقت تشهد به مناطق سيطرة النظام اضطرابات كثيرة بسبب الوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور، إلى زعزعة استقرار المنطقة، والضغط على الأطراف الإقليمية لإيجاد متنفس للنظام، وفقاً لـ"علوان".
من جانبه، قال المحلل العسكري والاستراتيجي "مصطفى فرحات" إن روسيا تستهدف أسباب الحياة في مدن وبلدات الشمال السوري خاصة بعد عودة الخدمات إليها، ومقارنتها بالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام حيث انقطاع المحروقات ونقص المواد الأساسية ووقوف الناس لساعات طويلة للحصول على ربطة الخبز.
واعتبر "الفرحات" في حديث لموقع "نداء بوست" أن "الاستقرار في مناطق الشمال يشكل خطراً على النظام وروسيا التي أخفقت قبل أسابيع بتحقيق الأهداف التي أعلنت لأجلها عن فتح معابر في إدلب وحلب"، مشيراً إلى أن موسكو تلجأ للحلول العسكرية عقب كل فشل سياسي أو تعرض النظام لضغط دولي.
وأضاف أن روسيا تسعى لإحداث خلل في الشمال السوري وإفقاد الأهالي العامل الأمني والأريحية التي باتوا يشعرون بها، بهدف دفعهم للعودة إلى مناطقهم الخاضعة لسيطرة النظام ليتم استثمارهم لاحقاً في ملف الانتخابات.
مستقبل "التهدئة" في إدلب
رجح "علوان" أن لا تشهد المنطقة انهياراً لاتفاق وقف إطلاق النار، "مع احتمالية تطور التصعيد إلى محاولات تقدم محدودة، أو إلى قصف أكبر يؤدي إلى مفاوضات جديدة بين تركيا وروسيا، من أجل إعادة تعريف مصالح البلدين في مختلف المناطق السورية"، معتبراً أن القصف الأخير لا يستهدف الاتفاق بعينه بقدر ما هو ضغط على تركيا.
من جانبه، قال "محمد" إن "التصعيد في الشمال السوري وارد، إلا أن الاتفاق الروسي التركي غير آيل للانهيار، فروسيا غير مستعدة مادياً لخوض حرب في المرحلة الحالية، جراء العقوبات الدولية عليها، والنظام السوري أعجز من أن يفتح معركة إلا إذا أراد المغامرة للفت الأنظار عن انهيار واقعه الاقتصادي، وبطبيعة الحال هذا مستبعد إلا بحالة واحدة، وهي وجود تمويل من دولة عربية لمثل هذه المواجهات".
بدوره، رأى "فرحات" أن المنطقة معرضة بشكل دائم لحدوث خروقات من قبل النظام وروسيا وإيران، إلا أنه من المستبعد حدوث عملية تقدم برية بشكل مشابه لما حصل العام الماضي، خاصة مع الانتشار العسكري التركي الجديد المتمثل بأكثر من 20 ألف جندي بسلاحهم وعتادهم الكامل.
جدير بالذكر أن عضو المكتب الإعلامي لمديرية الدفاع المدني السوري في إدلب "فراس خليفة" أكد في حديث لموقع "نداء بوست" إحصاء المنظمة لأكثر من 1250 هجوماً من قبل النظام وروسيا على المحافظة منذ اتفاق موسكو، وحتى يوم السبت الماضي.