تناول الجزء الأول من هذا المقال ابتلاء السوري بنظام استبدادي إبادي تجاوز النازية بممارساته في القتل والتدمير والاعتقال والتجويع والفساد؛ لتصبح حياة السوري، أكان ضده أو معه، قريبة من الاستحالة. مَن هو ضده، في المخيمات داخل الأرض السورية التي عجز عن إبادتها، أو مشرداً في بلاد اللجوء، حياته بلا آفاق؛ ومن معه، تجدهم بالآلاف يبحثون ويستجدون ويرشون من أجل دور للحصول على جواز سفر؛ ليتركوا البلد له وللاحتلالات التي جلبها لتحميه، وها هو يثبت لهم بالدليل القاطع أن أياً من الصفات الآدمية أو الإنسانية أو الأخلاقية يستحيل أن تنطبق عليه أو على سلوكياته؛ فهو يكذب كما يتنفس، ويتبجح بالنصر؛ يتحدث عن السيادة، وينتهكها بتبعية الروسي والإيراني في كل لحظة؛ تُمَزِّق إسرائيل سماوات سورية، ويتبجح بنفاد صبره منها، ويتوعدها بالرد؛ يتحدث عن تحالف مع المحتل الروسي والإيراني، وهما المتصرف بمصير موارد البلد ومصيره؛ يعرف أن القرارات الدولية بلا أنياب، ومجلس الأمن تأخذه حاميته روسيا رهينة، والمبعوث الأممي يتفتق ذهنه عن مبادرات كخُطوة بخُطوة، علّه ينخرط بعملية سياسية عقيمة؛ ومع ذلك يعرقل منتظراً نجاح عديمي الضمير والأخلاق بإعادة تكريره.
من جانب آخر، يجد السوري أن مَن تصدى لترجمة صرخته، ومَن مثّله مزيج من ساسة قدامى وهواة وانتهازيين وعديمي خبرة، باستثناء بعض القلوب والعقول الخيّرة والنيّرة التي أحست بفداحة ما هو به. يعرف أن الثورة السورية انطلقت دون تخطيط أو مشروع أو وضوح رؤية، وسارت بين كل الألغام المزروعة والمشاريع الجهنمية والخطط التي لا عهد له بها. يعرف أنه بين ألف مطرقة وسندان. خسر كل شيء، إن كان في الخارج، ومهانته؛ أو في الداخل، وذله في ذهن السوري، سقطت الشرعيات عن الأمم والدول والمعارضات، سقطت الشعارات التي تحكي عن العدل، وتحض على حق الشعوب في التحرّر والاستقلال، سقطت الشعارات واليافطات، لا لخلل في بنيانها أو هشاشة في خطابها، بل لأنّ حَمَلَتها سقطوا في امتحان الثبات والصمود.
يعرف السوريون أن هناك موتاً داخلياً في سورية؛ والموت الخارجي للسوريين لا يقل عنه. في الداخل يأس، وجوع، وذل، واستباحة لإنسانية الإنسان وكرامته. وفي الوقت ذاته هناك صرخات وتجدد لروح ثورة سورية ترعب المستبد وحُماته. صحيح محدودة ومتقطعة، ولكنها تعيد بثّ الروح في هذا الاستنقاع والضياع؛ وهناك صحوة عامة، لكن صامتة؛ ولا بد آتية ومدويّة. وفي الخارج حيرة وارتباك وإحباط وشوق؛ وهناك أيضاً أفكار واجتهاد وتنظيم وجهود وتمترس عند مبدأ العودة إلى سكة الحياة.
فما مخرجه، وكل شيء يبدو في حالة انسداد رهيب، وإحباط مخيف، وحزن لا ضفاف له. ليعلم السوري بداية، أن حقه لا يسقط بالتقادم، والظلم لا يسقط بالتجاهل؛ وليعلم أن حركته الكفاحية هي التي ترفع وتثبت حقه، وتسقط الظلم والاستبداد. جملة من اللاءات عليه قولها وتمثلها والعمل الدؤوب عليها، وجملة أخرى من الواجبات عليه إعمال ما تبقى له من عقل وروح ليحولها إلى مشروع يخرجه من مغطس العطالة الذي يجد نفسه فيه.
أيها السوري، على أية ضفة كنت؛ هدفك العودة إلى الحياة، وذلك يستلزم إزاحة مَن يمنع عنك الحياة؛ فلا تتوجه بسهم انتقاد أو تصغير أو إساءة إلى مَن يشترك معك بصدق بالهدف المتمثل بـ “الخلاص من الاستبداد والديكتاتورية”. لا تثق بمن يعتاش على السلبية وزرع الإحباط واليأس. لا تثق بمَن يمن عليك ببقائك وبأنه يدافع عنك، لا تستسلم إلى أن القوة الغاشمة التي تسعى لدحرك دائمة. قوة الشر والاضطهاد والقمع أكثر وهناً وضعفاً من عشّ عنكبوت، لكنها توهمك بأنها المسيطرة والمهيمنة والأقوى. ابحث عن السوري الذي يشاركك هواجسك وأحلامك وهدفك.
لا بد من العمل على جملة من خطوط الخلاص:
– بداية لا بد للسوري أن يعلم أن ما يسمى “حاضنة النظام” ليست بحاضنة له، ولكنها مخنوقة ربما أكثر من الآخرين؛ فهي دفعت أرواح شبابها حماية لمنظومة الاستبداد، وهو الآن يذلها. أيها السوري؛ هذا الذي تعتبره جزءاً من النظام ليس إلا أخاً لك، أخذه النظام رهينة تحت كذبة أنك تهدد حياته.
– لا بُدَّ من وقفات احتجاج في الداخل والخارج. في الداخل عصيان مدني سلمي شعاره: لا تعاوُن مع فاسد مضطهِد يُذِلّ ويجوّع السوريين ويرتع متمتعاً بخيرات البلد؛ وفي الخارج أمام قنصليات وسفارات كل دول العالم؛ والشعار: نريد بلدنا، نريد أن نعيش أحراراً وبكرامة كباقي البشر.
– لا بد من تشكيل تجمعات وهيئات سياسية مهمتها التشبيك بين السوريين أصحاب الهدف الواحد في “العودة إلى سكة الحياة”.
– لا بُدّ للسوريين من تقوية التواصل مع الدول ومع ما سُمي “أصدقاء الشعب السوري”. إن مواقف الاتحاد الأوروبي صامدة في مقاطعة منظومة الاستبداد ومستمرة، وكل يوم تفرض عقوبات جديدة على المنظومة. صحيح أنه يدفّع السوريين ثمنها، ولكنه في النهاية سيختنق.
– لا بُدّ من الاستمرار بتوثيق جرائم النظام والاحتلال الروسي والإيراني بحق السوريين واستمرار التواصل مع الهيئات الدولية المستقلة للتحقيق في الجرائم، وعلى رأسها “IIIM”، والتي بحوزتها للآن ما يقارب المليوني وثيقة تثبت إجرام النظام.
– ليعلم السوري أن تقسيم البلد هو ملجأ العصابة الأخير. على السوريين ألا يسمحوا بذلك مهما كان الثمن. مصير كل سوري في أي بقعة جغرافية من سورية واحد، وقوته بوضع يده بيد أخيه.
– ليعلم السوري أن الصراع الدولي الحالي سيكون في صالحه؛ فأي اهتزاز بوضع روسيا أو إيران، سيدفع منظومة الاستبداد إلى الهروب.
لقد خسر السوري كل شيء، والآخر لم يخسر شيئاً حتى الآن؛ شرف ذلك الآخر وأخلاقه وقيمه من المفقودات سلفاً، فلا تُحسب عليه خسارة. أمام السوري التفكير الإيجابي والتخطيط وتكوين الرؤية التي تُخرِجه مما هو فيه. قد يبدو الأمر مستحيلاً؛ ولكن لا مستحيل على كوكبنا. من رمادها تقوم الأشياء؛ والسوري كطائر الفينيق، لا بُدَّ أن يستفيق.