رغم أن استشراف مستقبل العلاقات الدولية هو المادة الأكثر قراءة من قِبل متابعي الأخبار السياسية، إلا أني لا أفضل الكتابة بها احتراماً للمتخصصين في المجال، وبدلاً من ذلك، سأكتفي بحديث عن بعض الملفات المتشابكة بين سورية وتركية خلال حكم البعث.
مرت العلاقات السورية التركية قبل الثورة السورية بمرحلتين، الأولى من انقلاب آذار 1963 وحتى عام 1998، والمرحلة الثانية من 1998 وحتى 2011، ويمكن وصف هذه العلاقات خلال الفترة الأولى بالعلاقات غير الودية، وإن لم تصل إلى مرحلة العداء الكامل، فلم يكن النظام السوري ممن يؤمن بحسن الجوار، بل كان يعتبر تركياً تحدياً بحكم انتمائها للمعسكر الغربي، وانتمائه للمعسكر الاشتراكي، وفي عدة مواقف صعّد النظام السوري الخلافات مع تركيا، وربطها مع بعضها البعض بقصد تعقيدها، ومن أهم هذه الملفات:
1- إقليم هاتاي: رغم أن خسارة إقليم هاتاي هي الأقل أهمية لسورية مقارنة بخسارة أربعة أقضية كانت تتبع دمشق وإلحاقها بلبنان عام 1920، وأيضاً وبكل تأكيد هي أقل أهمية بكثير من خسارة مرتفعات الجولان عام 1967، لكن النظام السوري استمر بإدراج الإقليم باسم “لواء إسكندرون” على خرائط سورية الدراسية، والإشارة له في كتب التاريخ باسم “لواء إسكندرون السليب” والمطالبة بعودته، وسياسياً ذلك يعني أن هناك أجيالاً سورية قادمة ستعتبر أن الإقليم هو جزء محتل من سورية وهذا أمر غير مرغوب في ظل النظام الدولي القائم على استقرار الحدود التي وضعت بعد الحرب العالمية الأولى، وتعود جذور الخلاف حول الإقليم إلى معاهدة أنقرة عام 1921 التي أنهت الحرب الفرنسية التركية، حيث اعتبرت هذه المعاهدة أن حدود سورية تبدأ من جنوب بياس على خليج إسكندرون لتصل لمحطة القطار في كلس ثم تتابع مع الحد الجنوبي لسكة حديد إسطنبول بغداد، وفي عام 1933 طالب أتاتورك بإعطاء الإقليم حق تقرير المصير استناداً لمبدأ ويلسون على اعتبار أن الإقليم تسكنه أغلبية تركية، وفي معاهدة مونترو عام 1936 التي عُقدت مع وقع قرع طبول الحرب العالمية الثانية وافق الفرنسيون على تلك الطلبات، وتم إعطاء إقليم هاتاي استقلاله عن سورية عام 1938 لتتشكل دولة هاتاي التي انضمت لتركيا عام 1939.
وعلى الرغم من أن سورية أعلنت في عام 1944 أنها ستحترم المعاهدات والاتفاقيات التي أبرمتها فرنسا نيابة عنها، إلا أن النظام البعثي اعتبر هاتاي أرضاً سورية وأدرج ذلك ضِمن النظام التعليمي، وأعلنت شخصيات من حزب البعث عدة مرات أن سورية لن تتخلي عن مطالباتها بشأن هاتاي، كما أعلن وليد المعلم، وزير الخارجية السابق، في عام 1998 أن هاتاي جزء من الأراضي السورية وسيتم المطالبة بها في الوقت المناسب، والتي ستكون، حسب قوله، بعد انتهاء الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان.
2- ملف المياه: كانت المياه مصدر خلاف دائم بين سورية وتركيا، حيث يعتمد كِلا البلدين على موارد مائية مشتركة هي نهرَا دجلة والفرات ونهر العاصي، وتركز الجزء الأكبر من الخلاف حول نهر الفرات، فبينما تعتبره سورية نهراً دولياً يخضع لأحكام اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بالاستخدامات غير الملاحية للمياه الدولية، كانت تركيا تعتبره نهراً وطنياً لها سيادة كاملة عليه بحكم أن منابعه جميعها تقع في تركيا، وبناء عليه فقد مارست تركيا ما تراه حقوقاً سيادية لها من خلال تنفيذ مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) الذي بدأ في السبعينيات، وشمل بناء 22 سداً و 19 محطة توليد كهرباء على نهرَيْ دجلة والفرات، ما دفع النظام السوري لإثارة الموضوع في جامعة الدول العربية، التي أصدرت في عام 1992 بياناً يدين السياسة التركية تجاه سورية في قضية المياه، واعتبرت أن مشروع (GAP) يضرّ بالمصالح الحيوية لسورية، لاحقاً، وبعد حل الخلافات حول نهر الفرات، رفض النظام السوري اقتراحاً تركياً لوضع معاهدة تتضمن تنظيم كل مسائل المياه بين الدولتين، كونه يتضمن اعترافاً بسيادة تركيا على مياه نهر العاصي الواردة إليها من سورية، وهو يعادل اعترافاً ضمنياً بالسيادة التركية على هاتاي.
3- ملف حزب العمال الكردستاني: رداً على تنفيذ تركيا مشروع جنوب شرق الأناضول المائي خلال ثمانينيات القرن الماضي، دعم النظام السوري تنظيمات إرهابية يسارية، وتحديداً حزب العمال الكردستاني وقائده عبد الله أوجلان، وكان هذا الدعم يزداد وينقص حسب حالة مفاوضات المياه التركية السورية، فكان الدعم السوري يتضاءل من حين لآخر، ثم يعود للظهور عندما تقوم تركيا ببناء سدود جديدة، وبلغ هذا الدعم ذروته بحضور حافظ الأسد حفل تدريب لعناصر حزب العمال الكردستاني في البقاع اللبناني الذي كان تحت السيطرة السورية في ذلك الوقت، في منتصف التسعينيات أطلقت تركيا حملة واسعة لمحاربة التنظيم الإرهابي واعتبرت أن دعم النظام السوري لهذا التنظيم حربٌ غير معلنة تتطلب رداً حازماً، فحشدت أنقرة قواتها على الحدود، وأرسلت إنذاراً أخيراً مهدِّدة بغزو شامل إذا لم يطرد النظام أوجلان، بعد تبين جدية الموقف التركي قام الرئيس المصري حسني مبارك بالتوسط بين دمشق وأنقرة، ما أدى لإبرام اتفاقية أضنة في عام 1998، حيث وافق النظام فيها على وقف دعمه المالي واللوجستي لحزب العمال الكردستاني وطرد أوجلان.
من أهم ما يمكن ملاحظته في هذه المرحلة أن النظام السوري تبنَّى في علاقته مع تركيا سياسة السير على حافة الهاوية، لكنه استخدم تلك السياسة بعقلانية حيث تراجَع عن دعم التنظيمات الإرهابية عندما أدرك أن التهديد العسكري التركي جدي، وأيضاً يمكن القول بأن النظام يميل لترك الملفات عالقة دون حلّ نهائي طالما أن ذلك ممكن، وذلك لاستثمارها في حال تغيرت الظروف، وبدلاً من ذلك يقوم بتجميد هذه الملفات، وهو ما فعله بملف إقليم هاتاي بعد عام 1998 عندما تطلَّبت المصالح الاقتصادية المشتركة تبني نهج براغماتي في العلاقات يقوم على مبدأ حسن الجوار، وأرجو أن أُوفَّق لعرض تلك المرحلة في مقال قادم.