في ظل التحوُّلات السياسية التي يمرّ بها النظام الدولي لم تَعُد التحالفات التي تنظمها معاهدات الدفاع الرسمية، والالتزامات المتبادلة، قادرةً على الاستجابة الكاملة للتهديدات فأخذت بعض الدول تُشكّل شراكات إستراتيجية أوسع من التعاون الأمني، مما وفر لها قدراً أكبر من المرونة في تحقيق أهدافها الإستراتيجية.
نقطة التحوُّل
يُعتبر فشل المحاولة الانقلابية في تركيا عام 2016 هو نقطة التحوُّل في السياسة التركية باتجاه تشكيل شراكة إستراتيجية مع روسيا، حيث ظهر واضحاً أن الحلفاء الغربيين لا يتفهمون المخاوف الأمنية التركية، ولا يمكن الاعتماد عليهم فيما يخص الأمن التركي، فبينما حذرت موسكو أنقرة من انقلاب وشيك قبل ظهور الدبابات في الشوارع بساعات، وأدانت محاولة الانقلاب أثناء حصولها، كانت المواقف الأوروبية مترقبة أثناء وقوع الانقلاب، أما بعد وضوح فشله فقد أصبحت تتحدث عن مخاوف على الديمقراطية في تركيا متجاهلة الهجمات الدموية التي نفذتها قوات الانقلاب، وأخذت مراكز الأبحاث الغربية تفند الأخطاء التي وقع فيها الانقلاب وكأنها تعطي دروساً في الانقلابات، وبشكل عامّ لم يكن الموقف الأوروبي موقف حليف متضامن مع حليفه.
الشراكة الإستراتيجية
بعد تسوية أزمة إسقاط الطائرة الروسية، تحول التعاون الروسي التركي بسرعة إلى شكل من الشراكة الإستراتيجية مدعوماً بالعلاقات الشخصية بين الرئيسين بوتين وأردوغان، وأثمرت هذه الشراكة في المجال الأمني بشكل خاص:
في الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط: إزاء رفض الولايات المتحدة إقامة مناطق آمِنة شمال سورية، سعت تركيا لإقامتها بنفسها لمواجهة التهديدات الإرهابية القادمة من سورية، ولتصبح ملاذاً للاجئين الراغبين بالعودة مستقبلاً، وبقي رد الفعل الروسي على إنشاء هذه المناطق منخفضاً بسبب تفهم الروس المخاوف الأمنية التركية، كما تم فتح مسار تفاوضي في أستانا عام 2017، أدى للتوصل لاتفاق وقف إطلاق النار، وإنشاء مناطق خفض التصعيد التي مكنت الجيش التركي من الانتشار وإقامة نقاط المراقبة، الأمر الذي حد من قدرة جيش النظام السوري على التقدم في إدلب وإرسال موجات جديدة من اللاجئين لتركيا.
في مجال أمن الطاقة: وضع أردوغان وبوتين في نيسان 2018 حجر الأساس لمحطة أكويو النووية التي ستوفر بعد انتهائها 7-10% من احتياجات تركيا السنوية من الطاقة، وبدأ الحديث عن جعل تركيا مركزاً لتوزيع الغاز الروسي.
في مجال التسليح: بعد ثلاثة عقود من رفض الولايات المتحدة الأمريكية بيع تركيا منظومة الدفاع الجوي باتريوت، أعلن الرئيس أردوغان عام 2017 عن توصُّل بلاده لشراء منظومة الدفاع الجوي الروسية 400S، ورغم تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات على تركيا، واستبعادها فعلاً من برنامج F35، فقد أصرت تركيا على إتمام هذه الصفقة، وبدأ نشر هذه المنظومة في صيف 2019.
كما أثمرت هذه الشراكة الإستراتيجية في مجالات أخرى منها السياحة، حيث ارتفع عدد السواح الروس من 866 ألف سائح خلال عام 2016 إلى 15.6 مليون سائح خلال عام 2018، بمتوسط إنفاق 607 دولارات من كل سائح.
نقاط خلاف متروكة
رغم كل الإنجازات التي قدمتها هذه الشراكة الإستراتيجية، يغفل -عمداً- الطرفان التركي والروسي مناقشة مسائل كثيرة تُشكِّل نقاط خلاف بينهما، مثل النزاع في ليبيا، ومسألة ضمّ روسيا للقرم، ومسألة دعم روسيا لليونان في نزاعها مع تركيا، والموقف الروسي من إيران التي تتحوَّل يوماً بعد يوم إلى معطل للحلّ في سورية، إضافة إلى احتمال تطوُّر الحرب الروسية الأوكرانية بشكل يفرض على تركيا اختيار الوقوف مع أحد الجانبين.
طورت تركيا علاقاتها مع روسيا من علاقة تعاوُن إلى علاقة شراكة إستراتيجية لتلبية احتياجاتها الأمنية، ولكن ما زال هناك مشوار طويل، وعقبات كثيرة، يجب حلها قبل أن تتحول الشراكة الإستراتيجية بين روسيا وتركيا إلى تحالُف إستراتيجي، فالبلدان يختلفان في النظرة الكلية للعلاقات الدولية، والأهداف النهائية منها، وما جمعهما حتى الآن هو مواجهة حالة تحوُّل النظام الدولي.